الأنانيّة الجامحة هي القضية
تعليقًا على كلمة الآنسة عفيفة صعب في عدد الأماني السابق
عندكِ أيّتها المربّية الأديبة الفاضلة أنّ "التمزّق هو القضيّة" هذا التمزّق النابع من "الحذر، فالتنافر ثم الانفصال".
إي وأيم الحقّ إنّ التمزّق هذا أودى بنا إلى هذا الدرك الأسفل وأساسه وسببه الحقيقيّ والأوّل "الطائفيّة الحادّة"، كما تقولين، الناخرة كالسوس في أعضاء الجسم اللبنانيّ إنّما لم تذكري ولم تشيري إلى مركّزي هذا الأساس، الذي تهاوى وبسرعة ما بُني فوقه من مداميك المؤسّسات منذ بدء الاستقلال الداخليّ الذي منحنا إيّاه العثمانيّون بالتوافق مع مندوبي دول أوروبا الخمسة وبناء على اقتراحهم عام1864 وحتّى عهد الرئيس "الياس سركيس" مرورًا بإعلان غورو القائد الفرنسيّ دولة لبنان الكبير عام 1920، وخلق الجمهوريّة اللبنانيّة عام 1926 والاستقلال 1943.
مركّزو هذا الأساس الهشّ "الفايش" الذي جرّ إلى التمزّق والانهيار هم قادة أنانيّون معروفون منهم القديم ومنهم التليد العائش بين ظهرانينا اليوم، قادة يتعذّر على إدخال التربية الدينيّة في منهاج التربية الوطنيّة، كما اقترح يومًا " المعلّم " "والحاج إلى الحقيقة" والذي قضى شهيدًا فداءً للبنان المستقلّ الحرّ، أن يزيل البذور التي نثروا ولا يزالون ينثرون، في تربة هذا الوطن الطيّبة التي أعطت ويا للأسف أزهار ما بذروا وما غرسوا! أزهارًا تعبق الآن بروائح التعصّب الطائفيّ الكريهة والأنانيّة الجامحة.
إنّ هؤلاء القادة لأنانيّتهم وجشعهم والادّعاء بالحفاظ على امتيازات طائفتهم التي هي بالحقيقة امتيازات لهم دونها، غرسوا أغراسًا غير طيّبة، جرّت وسوف تجرّ على هذه الطائفة، البريء معظم رجالها من عملهم، كوارث جديدة قد تؤدّي إلى ضياع لبنان كوطن ذي سيادة وكرامة وحرّيّة. إذا ما استمرّوا في غيّهم وتكبّرهم واستعلائهم على سائر مواطنيهم، والزعم أنّهم أرفع منهم عرقًا وأسمى محتدًا وأرقى ثقافة وتمدّنًا.
إنّ أنانيّتهم الجامحة سبب رئيسيّ لهذا التمزّق، إنّهم يريدون أن يبنوا وفي آواخر القرن العشرين، قرن انتصار العلم والعقل، وطنًا طائفيًّا يكونون هم المنتفعين بخيراته دون سواهم، ولو أنصفوا وعملوا بدين المسيح القائل: أحبّ قريبك كنفسك، أو بدين العقل والإنسانيّة القائل: لا تصنع للغير ما لا ترضاه لنفسك، لما أوصلوا أنفسهم وأوصلوا لبنان إلى هذا الحضيض من الضعف والذلّ والألم.
إنّ وصاياهم التي بشّروا بها ويبشّرون بها في أوساط شعبهم الطيّب في الأساس والأصل، هي التي قادت إلى هذا الحذر والتنافر والانفصام فالتمزّق فالكارثة.
إنّ هذه الوصايا المسطورة في وثائق تنطق بهذه الأنانيّة الهوجاء من المفيد إيرادها، تبصرة للناس وإيقاظًا لهم وجلاء لبعض ما غمض وبطن، لعلّ في ذلك وسيلة لعلاج هذا الداء العضال، داء الأنانيّة الجانحة المتسرّب إلى نفوس معظم رعاة طوائف لبنان وفقًا لتسلسلها الزمنيّ.
الوثيقة الاولى: وصيّة المطران "طوبيّا عون" الذي كان زعيمًا دينيًّا وقائدًا سياسيًّا، تعاونه لجنة بيروت المارونيّة في حوادث عام 1860 المعروفة بحوادث الستّين، اقتطعنا بعض بنودها المتعلّقة لا غير ببني معروف والمأخوذة من مكتبة الأستاذ "هاني أبو مصلح" جاء في هذه البنود ما مضمونه:
أوّلًا: الدروز شعب متمرّس بالقتال إذا اتحدت عائلاته صعب التغلّب عليه، لهذا علينا نحن الموارنة أن نعمل دومًا على أساس إبقاء هذه العائلات منقسمة غرضيًّا أي أن يُحافظ على حزبيّتها الجنبلاطيّة وحزبيّتها اليزبكيّة حتّى تبقى ريحها متفرّقة.
ثانيًا: الدرزي متمسّك بأرضه وهو يموت دفاعًا عنها، فإذا أضاعها هاجر تاركًا هذا الجبل الذي سيطر عليه قرونًا، وعليه ينبغي أن نلجأ إلى كلّ السبل لنزعها من يده "نحن ذوو يسر وهو في عسر"، لأنّ التجارة والصناعة بأيدينا والمال متوفّر عند أغنيائنا، فإذا ديّناه يتعذّر عليه على الغالب الوفاء فيضطّر إلى بيع أرضه وفاء لهذا الدين، وهكذا تدريجيًّا ومع توالي الأجيال يمسي معظم الجبل لنا.
ثالثًا: باتّحاده مع جيرانه المسلمين، سنّة كانوا أم شيعة، يقوى؛ فلنحارب هذا التقارب ما استطعنا ونحن أذكياء لا تفوتنا الحيلة لبلوغ هذا الأرب.
الوثيقة الثانية: عثر عليها عام 1920 في دير متنيّ، وهي تحتوي دستورًا يهتدي به بعض زعماء الموارنة، وبموجبه يوجّهون الشعب المارونيّ المغرّر به وغير المدرك لما قد يجرّ إليه هذا التوجيه من نفور وكراهية لسائر الطوائف المسيحيّة منها والمسلمة؛ وهذا الدستور المكتوب يقرُب في محتواه من محتوى الوثيقة الأولى، وهو ذو عشر وصايا يسير اليوم على هديها جماعة " الجبهة اللبنانيّة " ورؤساء الرهبان وسائر غلاة الموارنة السياسيّة العاملين عل بدل لبنان المثاليّ المتساوي فيه الجميع بلبنان الطائفيّ العنصريّ والتي يبدو أنّه يسهر على تطبيقها المجمع السرّي أي الغرفة السوداء، وقد نشرت هذه الوصايا في أكثر من صحيفة بيروتيّة في عام 1976 وفي كتاب بالفرنسيّ عنوانه من أجل لبنان "لكمال جنبلاط" طبع في "باريس".
إليكم بعض هذه الوصايا العشر:
الوصيّة الأولى: إنّ هذا الوطن لم يُخلق إلّا لكم حتّى تجمعوا شملكم وتباشروا وثبتكم، واعلموا جيّدًا أنّ كلمة لبنان معناها "نصرانيّ" بالأحرى "مارونيّ" لأنّ سائر الطوائف النصرانيّة لا تنسجم مع محتوى هذا الدستور الطائفيّ" أمّا العرب الذين جاؤوا من الصحراء فيجب أن يعودوا إليها "العرب في لبنان موجودون قبل مجيء الموارنة لا بل قبل الفتح الإسلامي وقبل ميلاد المسيح".
الوصيّة الثانية: عليكم بأسباب القوّة من لياقة مدنيّة وتنظيمات للشباب، واهتمّوا بالجيش وعليكم بكتمان أموركم.
الوصيّة الثالثة: ادرسوا دائمًا مخطّطات الآخرين وتداخلوا معهم لتعرفوا ما عندهم ولا مانع للبعض من التظاهر بتأييدهم عند الضرورة على أن يبقى مرتبطًا برؤسائه وكنيسته، ولا يعصى آوامر الآباء المخلصين لكم.
الوصيّة الرابعة: اجتهدوا في التقرّب من ملوك العرب ورؤسائهم بالخدمات الطبيّة والخدمات الشخصيّة، وهذا سهل جدًّا ولكنّه يتيح لكم مجالات واسعة للعمل ويدرّ عليكم أموالًا ونفوذًا حتّى في البلاد المستعصية عليكم.
الوصيّة الخامسة: إنّ معركة الجنسيّة شديدة الأهمّيّة فدققوا كثيرًا في ذلك واهتمّوا بأحوال المغتربين والذين نزلوا عليكم من البلدان الآخرى، لتحتفظوا بحقوق الأكثريّة المقرّرة لكم وإلّا ضاعت كلّ الجهود.
يا أبناء يسوع المسيح! ارفعوا رؤوسكم وشعائركم في كلّ مكان مرتفع، على الطرق وعلى رؤوس التلال وفي المدارس وفي مراكز البعثات.
وهذه الوثيقة من المرجّح المعقول أنّ أيدي رهبان ومدنيين نظّمتها في جلسة من جلسات المجمع السرّيّ المارونيّ.
الوثيقة الثالثة: هي ورقة عمل قُدّمت لحزب الكتائب في حزيران عام 1977 تبحث جوهر المشكلة اللبنانيّة التي خلقتها المارونيّة السياسيّة وما يرتأى لها من الحلول بحيث تأتي منسجمة مع محتوى الوثيقتين السابقتين أي محاولة سيطرة الموارنة على كلّ لبنان أو على جزء منه يكون لهم وحدهم.
وهاك بعض الوارد في نصّها:
إنّ الأداة المثلى لبنيان لبنان السياسيّ هي التي تعطي، الحضور المارونيّ فيه، المناعة التي تمكّنه أكثر فأكثر من مقاومة الطغيان الأكثريّ والمناعة هذه على أنواع:
فهي في العدد، وكثافته، وهي في مدى انتشار النصارى "الموارنة" على أرض لبنان وإشغالهم لهذه الأرض وهي في الإنسان المتفوق على غير غطرسة أو عداء.
وخطة حماية لبنان من الطغيان الأكثريّ تمرّ بمراحل:
المرحلة الاولى: تأكيد السيطرة على المناطق الموصوفة بالمناطق الحرّة وتعزيزها مثل "المتن الشماليّ وكسروان وبلاد جبيل".
المرحلة الثانية: الانطلاق نحو المناطق الأخرى عبر إحياء الوجود المسيحيّ فيها، ثمّ تعزيز هذا الوجود وتنميته أيضًا باستمرار توسيع رقعته إلى أقصى الحدود...... الخ
أي اتّفاق مرحلي مع الفريق الآخر فيجب أن يؤمّن:
أ- تأكيد صلاحيّات رئيس الجمهوريّة.
ب- الاحتفاظ، ما أمكن، بالمناصب والمراكز الرئيسيّة الأخرى في مؤسّسات الحكم والدولة.
ج- تعزيز دور المسيحيّين "الموارنة" في انتخاب رئيس الجمهوريّة وفي اختيار رئيس الحكومة والوزراء وفي إقرار القوانين والتشريعات ذات الطابع المصيريّ، مثل قانون الجنسيّة وقانون الأحزاب وقانون الجيش، وسائر التشريعات المماثلة.
د- إحياء الوجود المسيحيّ في المناطق ذات الأكثرية غير المسيحيّة، وتعزيزه، وتنميته باستمرار؛ وفي هذا الإطار يمكن اللجوء إلى الوسائل التالية:
-إعادة المسيحيين المهجّرين من هذه المناطق إلى قراهم.
-العمل على إنشاء قرى مسيحيّة جديدة في مواقع ذات قيمة استراتيجيّة.
-تنظيم صفوف المسيحيين في المناطق المذكورة سياسيًّا وأمنيًّا بما يكفل لهم الحرّيّة والسلطة والتأثير الفعّال في السلطات المحليّة وقراراتها وأعمالها....الخ
هذه هي القضيّة أيّتها الأديبة قضيّة الأنانيّة المتطرّفة واللّاعاقلة التي جمحت بأصحابها، فحادوا عن الصراط المستقيم، صراط العدل والمساواة والتسامح، ولو عادوا إلى ضمائرهم فحاسبوها وأصغوا إلى آيات المسيح وسائر الأنبياء ومحّصوها، لخفّفوا من غلوائهم وجموحهم واستعلائهم ولقنعوا بحقّهم وبحقّ طائفتهم التي ترفعها الروح المسيحيّة الصحيحة وتخفضها الروح الصليبيّة المتعصّبة اللاإنسانيّة ولقالوا: لك ما لنا أيّها اللّبنانيّ، أيًّا كانت طائفتك وأيًّا كان مذهبك، ومشاكلنا اللّبنانيّة ومشاكلنا مع الفلسطينيّين نحلّها فيما بيننا بالعقل والحوار؛ وعندئذ ينتفي التمزّق وتكسر أسافين المتآمرين والمتلاعبين بمصيرنا، فيحيا لبنان ويواصل المسيرة الحضارية المتوقّفة منذ أربع سنين.
يوسف س. نويهض