لبنان ينازع
مقالة كتبها الأستاذ موريس دو فرجي في جريدة لومند الفرنسيّة
في العدد الصادر بتاريخ 8 تموز 1977
هذه المقالة يحلّل فيها واقع الحال بلبنان، متوجّسًا خيفةً عليه، مندّدًا بساسة دول "الغرب المسيحيّة" لعدم اهتمامهم، بالقدر اللّازم الكافي، بهذا الوطن الصغير، حتّى يبقى منارة حضاريّة "نصرانيّة" في هذا المشرق العربيّ، وإليكم ترجمتها:
"لو أنّ نصارى العالم كلّه كانوا يدعمون أتباع دينهم في "لبنان" كما دعم ويدعم يهود العالم قاطبةً، أتباع دينهم، في "إسرائيل" (البلد العربيّ المحتلّ عنوة بقوّة السلاح) لانتهت مجزرة بيروت، ولعاد إلينا استقلالنا كاملاً".
هذه الفقرة المتعلّقة بوطن الأرز، والتي فاه بها نازح لبنانيٌ مقيمٌ في باريس (عاصمة النور) تُلخّص مجمل توهّم مواطنيه، هذا التوهّم الذي أودى بهم إلى هذه الدوّامة العنيفة الجهنميّة التي ينسحقون فيها اليوم!
إنّ نصارى العالم بكامله، لا ينصرون إخوانهم في الدين "بلبنان"، (وهل الدين حقًا سبيل للأخوّة)، إذ إنّ هذا البلد ليس أرضًا مقدّسةً لأجدادهم ولا موطنًا مركزيًّا لإيمانهم، (كما هي فلسطين بالنسبة لليهود، وفق زعم هؤلاء) ولم يعرفوا قطٌ أي نوع من الإبادة الجنسية أو العرقية التي مارسها الهتلريّون (في ألمانيا وأوروبا الوسطى) ولا يكابدون قلقًا كمينًا، ولا وجزعًا من أن يقعوا مرّة ثانية في مثل هذه الإبادة الجماعيّة؛ هذا الجزع الذي حمل يهود العالم كلّه على اعتبار إسرائيل (فلسطين) ملجأ لهم، وأرضًا يمكن أن تنجّيهم من الذلّ والاضطهاد. إنّ قادة الغرب السياسييّن لن يتحرّكوا كما لن يحرّك ساكنًا نصارى هذا الكوكب أجمع، إزاء المأساة اللبنانيّة الجديدة؛ قد يتفوّهون بأقوال حلوة، أقوال باللسان، كما جرى في العام 1956، إثر مأساة "بودابست" (المجر) وكما قالوا عند مأساة "براغ" (تشيكوسلوفاكيا) في العام 1968؛ إلّا أنّ ما فاهوا به وقالوه لم يجاوز حدّ الكلام!
وأولئك الذين يحلمون بإنشاء لبنان صغير مسيحيّ (مارونيّ بالأحرى)، بدلًا من لبنان الحالي، فإنّهم يركضون وراء هدف لا يحقّق، لأنّه لا أحد باستثناء الإسرائيليين، يريد مثل هذا الحلّ، الذي قد يكون رفضه النقطة الوحيدة التي يلتقي ويتّفق عليها السوفيات والغربيّون في هذه المنطقة من كوكب الأرض؛ ومن المرجّح أنّ هؤلاء وأولئك، إذا اقتضى الأمر وواتتهم ريح السياسة، يُؤْثرون على هذا الحلّ حلًّا آخر، وهو إشراف سوريا الكبرى على مصير "لبنان"، هذه السوريا التي يحلم بها الفريق "حافظ الأسد"، وقد سنحت له فرصتها! وهل يراد، أو لماذا يراد أن يبدو أوفر إنسانيّة إزاء المسيحيّين أكثر ممّا يبدو هؤلاء إزاء إخوانهم، وأكثر مما بدا، هو نفسه، إزاء إخوانه، لمّا لجأ إلى عصاه وسحق الفلسطينيين والتقدّميين معًا، (صيف 1976)!
إنّ إغراق حيّ من مدينة، بطُوفان ٍ من حديد ونار، لأمر رهيب، ولكن كم من رؤساء دول توقّفوا عند اعتبارٍ كهذا، لمّا لم يبق لديهم وسائل أخرى لبلوغ هدف يعدّونه جوهريًّا؛ وفي الحالة هذه، فإنّ جيش الاحتلال لا يستطيع شنّ حرب شوارع محدودة لاحتلال نقاط دعم واقعة تحت سيطرة أخصامه، إذ إنّه يفقد مفعوليّة تفوّقه بالسلاح ويتعرّض للاختناق في جوّ من عداء الشعب له.
إنّ الاحتراب – التكتيك – الذي لجأ إليه الأسد، أقلُّ خطرًا على الفرق المقاتلة، وهو، مهما كان مخيفًا ومدمّرًا يبقى بالتأكيد، غير ذي مفعوليّة؛ إنّه يصيب ويؤلم المقاومين لدخول السوريّين مناطقهم، ويدفع الشعب إلى الوقوف صفًّا واحدًا مع هؤلاء، يشاركهم في تبنّي قضيّتهم، إلّا أنّه أيضًا يحملهم على الهجرة، ولكن، أو ليست هذه أحد أهداف سوريا إلى جانب تدمير ميليشيات "الجميّل وشمعون"؟
وعندما يحذو النصارى اللبنانيّون حذو منظّمة الجيش السرّي O.A.S. في آخر مرحلة من مراحل حرب الجزائر(حرب التحرير) فإنّهم يتعرّضون اضطرارًا، إلى النزوح الكثيف. كما حصل لجماعات الأرجل السود (هم الاوروبيّون الذين كانوا في الجزائر، والذين تميّزوا في عهد الاستعمار بلبس أحذية سوداء، عكس سكان البلاد الذين كانوا حفاة أو يحتذون نعولًا حقيرة)، مع فارق أنّ هؤلاء النصارى ليس عندهم وطن يلجأون إليه كأولئك الذين طالما احتموا بفرنسا، وبالفعل فإنّ حركة الهجرة هذه قد بدأت منذ وقت قريب، وها هي الآن تنبعث من جديد وتقوّض أسس لبنان نفسها؛ وكأنّنا اليوم نعيش زمن احتضاره!
فهل سنشهد شعبًا ذكيًّا ودينامكيًّا، يرفض رؤية وطن كان في وقت مضى "سويسرا الشرق الأدنى"، ينهار اليوم تحت ناظريه، بسبب خطأ السياسيّين العاجزين عن تحقيق التعايش بين أفراده؟
ترجمة يوسف س. نويهض