العصاميَّة

لا تقل أصلي وفصلــــــي أبدًا         إنّما أصلُ الفتى ما قد حصـلْ

قد يســودُ المرءُ من دونِ أبٍ         وبحُسْنِ السَّبكِ قد يُفنى الزَّغَلْ

   إنّ صاحب هذين البيتين من الشعر الحكيم، ابن الوردي. وهما جديران بالحفظ، عن ظهر قلب لمعناهما الجليل. أراد الشاعر فيهما أن يقول: ليس عليك أيّها الإنسان أن تتّكل على سلفك، فتتغنَّى بأمجادهم، وتفاخر بعائلتك أو قبيلتك، فتتّخذ منها عُدَّتك في الحياة، بل أن تطّرح جانبًا روح الاتّكاليّة فتعتمد على نفسك، دون سواها.

   فكلامه الشعريّ نصيحة لنا، كي لا نعتمد على من سبقونا من الأقدمين، أي أن نكون عصاميّين لا عظاميين. وهو قول وجيه مبنيّ على خبرةٍ وحكمةٍ وتؤكده الأيام، وينطبق على الناس أجمعين في كلّ زمان ومكان؛ ولدينا أمثال كثيرة، لا يكاد يحصيها عدٌّ، تثبت صحّته، وخصوصًا في هذا العصر الذي سيطر فيه سلطان العلم وطُرد ظلام الجهل والتخلّف.

   فكم من إنسانٍ، لم يورثه أبوه شيئًا من المجد والجاه، استطاع باجتهاده وسعيه ودأبه على العمل، أن يبلغ أسمى مرتبة من مراتب الرقيّ، دون أن يقف أصله المغمور حاجزًا منيعًا في سبيل تقدّمه، ولم يحلْ خمول ذكر جدوده دون تحصيل العلم الهادي الذي قال فيه ابن الوردي الحكيم:

لا تقــلْ قــــــد ذهبــت أربـــابُه      كلُّ من سار على الدرب وصَلْ

   ومع ذلك فكم من امرىءٍ تراه يقف من الغير موقف المتكبّر، ينظر إليهم نظرة الاستصغار، مباهيًا بنفسه، معتدًّا بآبائه وجدوده، الذين واتتهم الظروف حتّى يتفوّقوا على الآخرين من أبناء وطنهم، في زمن جهل واستبداد؛ وهو لو قِسْتَه بمقياس القيمة الصحيحة للإنسان لما ساوى أقلّ الناس، ممّن كان آباؤهم مغمورين، ولو نظر بعين العقل وتبصَّر بالأمور، لتواضع ورأى في مواطنيه أخوةً له، بدون أن يتعالى عليهم، وهو أدنى منهم منزلة حقيقيّة، ولاتَّعظ بالقول العامِّي الملخِّص أبيات ابن الوردي: "أصلك فعلك".  

   ألم يحرّر جورج واشنطن بلاده من نير الإنكليز، وكان أبوه بستانيًّا، أو لم يحرّر مصطفى كمال - وكان جنديًّا عاديًّا - أمّته ويطرد منها الجيوش الغربيّة، ويجعل لها مكانة بين الأمم، وستالين وهتلر وماوتسي تنغ وعبد الناصر، هل اعتمدوا على آبائهم لينالوا ما نالوه من مجد وفخار؟

   أكتفي بهذه الأمثال من بين المئات غيرها، لأدلّل على صدق كلام الشاعر، مُوردًا أيضًا ما قاله الحجّاج بن يوسف والي العراق، من قبل الأمويين، تدعيمًا لمعنى أبيات ابن الوردي:

كنِ ابْنَ من شِئتَ واكتَسبْ أدبًا       يُغنيكَ مضمونه عن النَّــســبِ

إنّ الفتى من يقول هــا أنَــذا        ليس الفتى من يقول كان أبي!

مضيفًا إليه بيت الشاعر الفارس عنترة العبسيّ:

وقد طلبتُ من العليـاءِ منزلةً         بِصَارمي، لا بأمّي لا ولا بأبي

                                       يوسف س. نويهض