النَّجدة                                                 

                        (قصّة كتبها المؤلّف لتلاميذه في الصف الخامس الابتدائيّ)  

   امتطى "غطّاس" سيّارته في صباح أحد أيام الصيف، وترك "دير الزور" مبكرًا، واتَّجه صوب "أبو كمال"، ولم يكن معه في مركبته أحد يُؤْنِسه أو يسلّيه. وبعد مسير بضع ساعات ضلّ الطريق، وعندما وصل إلى مكان قَفْرٍ في وسط الصحراء، نفذ معه البنزين وقلّ الماء، فوقفتِ السيارة لا تقدّم ولا تتأخّر، كأنّها حجر. فنزل السائق من مقعده، وأخذ يلتفت ذات اليمين وذات اليسار، في ذلك الفضاء الوسيع، لعلّه يترقّب من بعيد غبارًا يستأنس به أو سيّارة آتية نحوه، ولكنّ أمله ضاع سدًى، فتجلَّد وتصبّر وشرع يدور حول مطيّته الجامدة الصمّاء تارة، ويجلس بجانبها تارة أخرى ليتَّقي حرارة الشمس المُحْرقة الملتهبة.

  وأذنت ساعة الزوال، ولم يرَ أنيسًا ولم يسمع حسيسًا، فأخذ يلوم نفسه ويؤنّبها على إهماله وعدم مبالاته بأمر السوائل الاحتياطيّة. ولمّا صار العصر، واشتدَّت وطأة الحرّ الشديد أخذه العطش واستولى عليه الضيق وساوره شيء من القلق والوساوس، وخاف أن يدبّ الليل بجيوشه، ويضطرّ أن يبيت في ذلك البلقع‘ مُعَرَّضًا لخطر الضواري والجوع والعطش، فعاد إلى مراقبة الآفاق المستديرة الكرويّة، يحملق بعينيه إلى الجهات الأربع حتّى تعبتا، ولكن عبثًا فعل فاستسلم حينئذ للقضاء، وصعد إلى سيّارته ليتناول قسطًا من الراحة.

   وبعد قليلٍ أطلَّ برأسه من شبّاك المركبة وحانت منه التفاتة نحو الشرق، فرأى غيومًا من العجاج، فاستبشر واستأنس وطاب نفسًا، وأخذ يترقّب وينتظر بفروغ صبر، ذلك الأثر البعيد، وما عتّم أن اقترب الغبار بسرعة، وتأكّد أنّ سيارة متَّجهة نحوه، فأخرج من جيبه منديلًا وضعه في رأس عصا وأخذ يلوّح به طلبًا للغوث. ولم يمرّ بضع دقائق حتّى أطلَّت عليه سيّارة شحن فيها السائق ومعاونه، ولمّا وصلت قرب غطّاس، نزل من فيها فسأله أحدهما بلطفٍ ومودّة: "حالك يا أخا العرب"؟ فأجاب للحال: "لا ماءَ معي ولا بنزين فأنجدوني..." ولم يتمّ كلامه حتّى تناول كلّ من الرجلين تنكة في الواحدة ماء، وفي الأخرى بنزين، وأسرعا إلى سيّارة المستغيث، وأفرغا ما فيهما في مستودعي الماء والبنزين، وعادا مسرعين كالبرق، وركبا كميونهما، فلحقهما غطّاس مادًّا يده إلى جيبه ليعطيهما ثمن السائل؛ إلاّ أنّهما لم يمهلاه دقيقة واحدة؛ ولم يكد يصل إليهما حتّى كانا قد غادرا المكان، ولم يتأخّرا حتى توارت سيّارتهما عن الأنظار. وبقي المنجود واقفًا مكانه مبهورًا، لا يدري ماذا يفعل ليعرف ذينك المنجدين، ويكافئهما على معروفهما، ويعلّمهما أمثولة في حسن الوفاء كما علّماه أبلغ درس في النجدة والمروءة.

   وركب سيّارته وهو ممتلىء غبطة من هذه الروح النبيلة، وسار وهو يردّد: "ما أبهاكِ أيّتها الإنسانيّة! وما أقسى الحياة وأظلمها لو لم تنيريها بنورك الشعشعانيّ"!

                                           يوسف س. نويهض

                                            9 آذار 1942