الأمّ

      الشمعة تحرق نفسها ليستنير بها الناس، والأمّ قريبة الشبه من الشمعة تضحّي بنفسها في سبيل أولادها.

   تحمل ولدها في أحشائها تسعة شهور، تغذّيه من دمها، وإذا جاء إلى عالم النور، استقبلته ضاحكةً وأرضعته لبنها سنة كاملة أو أكثر. ترعاه في النهار، تحمله على ذراعيها، فإذا بكى وجف قلبها لصراخه، وإذا وقع اضطربت جوارحها خوفًا من أن يكون قد أصابه شيء من الأذى، وإن اقترب منه قِطّ، ركضت إليه لئلّا يخدشه بأظافره.

   وفي الليل تنام بجانبه، لا تفارقه، فإذا أفاق وبكى، نهضت للحال وسهرت قربه وناولته ثديها ليرضع وينام. وكثيرون هم الأطفال الذين يحرمون أمّهاتهم لذّة النوم والراحة، وكم من مرّة مرضن بسبب ذلك وتعرّضن لخطر الأمراض والشقاء.

   الأمّ إذا مرض ولدها: تنسى نفسها وتحصر كلّ همّها بعزيزها وفلذة كبدها، فتجلس قرب سريره، تعالجه وتواسيه، وتركض إلى الطبيب ليأتي إليه ويداويه، وتقف نفسها على معاملته تبعًا لأوامر طبيبه. وفي أثناء مرضه لا تذوق عيناها طعم الكرى إلّا نادرًا، ترميه دائمًا بنظرات العطف والحنان، وإذا ما بعدت عنه قليلًا تذرف مقلتاها الدموع السّخيّة وكلّها ألم ولوعة على ابنها، ممّا قد يصيبه من مكروه.

   فالأمّ هذه إذا شبَّ أبناؤها وبناتها وكبروا، فينبغي أن ينظروا إليها بالعين التي نظرت بها إليهم عندما كانوا صغارًا، فيحترمونها ويحبّونها ويحاولون أن يبعدوا عنها كلّ شر وأن يسهّلوا لها كلّ سبل الراحة، ويخفضوا أصواتهم إن حدّثوها أو جاوبوها، ويرقّوا لها ويطيعوها، ويصغوا إلى نصائحها حتّى يؤدّوا قسطًا من الدين الذي عليهم لها.

   وإذا سلكوا هذا السلوك معها، دعت لهم بالخير والسعادة ورضيت عنهم، وعُدّوا من أهل الوفاء وعرفان الجميل.

                                                                                     يوسف س. نويهض