التّعاون

   إنَّ حاجة بعض النّاس إلى بعضٍ، صفةٌ لازمةٌ في طبائعهم، وخلقةٌ قائمةٌ في جواهرهم وثابتةٌ لا تزايِلُهم1، ومحيطةٌ بجماعتهم، ومشْتَملةٌ على أَدْناهم2 وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غابَ عنهم، ممّا يُعِيشُهُم  ويُحييهم ويُمسك بأرماقِهم3 ويُصلح بالهم4 ويجمع شملهم، وإلى التّعاون في دَرْك5 ذلك والتَّوازُر6 عليه، كحاجتهم إلى التّعاون على معرفة ما يضُرّهم والتَّوازر على ما يحتاجون من الارتفاق7 بأمورهم الّتي لم تغب عنهم. فحاجة الغائب موصولةٌ بحاجة الشّاهد لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى. وجُعلت حاجتنا إلى معرفة أخبار مَن كان قبلنا كحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا. وجُعِلَت الحاجة حاجتين: إحداهما قِوام8 وقوتٌ والأخرى لذّةٌ وازديادٌ في الآلة9 وفي كلّ ما أجذل10 النّفوس.

   ولم يخلق اللّه تعالى أحدًا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه دون الاستعانة ببعض من سخَّر له؛ فأدناهم مُسَخَّرٌ لأقصاهم، وأجَلُّهم مُيَسَّرٌ لأدَقِّهم11، وعلى ذلك، أَحْوَجَ الملوك إلى السُّوقة في بابٍ وأحْوَج السّوقة إلى الملوك في بابٍ؛ وكذلك الغنيّ والفقير والعَبْد وسيّده؛ ثمّ جعل اللّه كلّ شيءٍ للإنسان خَوَلًا12 وفي يدِه مُذَلَّلًا مُيَسَّرًا، إمّا بالاحتيال له والتَّلطُّف في إراغته13 واستمالته، وإمّا بالصَّولة14 عليه والفتْك به، وإمَّا أن يأتيه سهوًا15  ورَهوًا16. على أنَّ الإنسان، لولا حاجته إليها، لما احتال لها ولا صال عليها.

                                          عن الجاحظ

                                         كتاب الحيوان

 

1- تزايلهم: تفارقهم، تنفكّ عنهم، تزول عنهم.

2- أدناهم: أقربهم وهي ضد أقصاهم.

3- أرماقهم: جمع رَمَق وهو بقيّة الحياة في الجسم.

4- بالهم: حالهم، شأنهم.

5- درك: بلوغ، الحصول على.

6- التوازر: التعاون، من فعل وازر.

7- الارتفاق: الإستعانة، من فعل ارتفق، وتأتي بمعنى اتّكأ على مرفق يده.

8- قوام: ما يُعاش به، ما يقيم الإنسان من القوت.

9- الآلة: ما اعتملت به من أداة ولها معنى الجمع.

10- أجذل: أفرح، سرّ.

11- أدقّهم: أصغرهم ضد أجلّهم أي أعظمهم.

12- خولًا: ما يعطى الإنسان من النِّعَم والعبيد والإماء.

13- إراغته: طلبه من أراع = طلب وأراد.

14- بالصولة: الإستقواء والتغلب عليه.

15- سهوًا: من غير علم منه.

16- رهوًا: على الهينة وبدون تعب، وبسهولة.