الخفّاش
الخفّاش طائرٌ من عَرَض الطَّير، شديد الطَّيران، كثير التّكفِّي في الهواء، سريع التّقلُّب فيه؛ وهو مع ذلك كلّه أمْرَطُ، ليس بذي ريشٍ، وإنّما هو لحمٌ وجلدٌ؛ ولا يجوز أن يكون طُعْمُه إلّا من البعوض، وقوتُه إلّا من الفَراش وأشباه الفَراش، ثمّ لا يصِيدُه إلّا في وقت طيرانه في الهواء وفي وقت سلطانه، لأنّ البعوض إنّما يتسلّط باللّيل.
والخفّاش أي طير اللّيل ضعيفُ قُوَى البَصَر، لا يظهر في الظُّلمة الحالكة لأنّها تكون غامرةً لضياء بصره، ولا يظهر نهارًا لأنّ بصَره، لضُعف ناظره، يلتمع في شدّة بياض النّهار. فإذا احتاج إلى الطّعم والكسب التَمَس الوقت الّذي لا يكون فيه من الظَّلام ما يكون غامرًا قاهرًا وعاليًا غالبًا، ولا منّ الضِّياء ما يكون مُعشيًا رادعًا ومُفرِّقًا قامعًا أي التَمَسه عند غروب القُرص وبقيَّة الشَّفّق، لأنّه وقت هيْج البعوض وأشباه البعوض وارتفاعها في الهواء، وانتشارها في طلب أرزاقها، فالبعوض يخرج للطُّعم، وطُعْمه دماء الحيوان، وتخرج الخفافيش لطلب الطُّعم فيقع طالب رِزقٍ على طالب رزقٍ، فيَصِير ذلك هو رِزقُه.
والخفّاش ليس له منقارٌ مخروطٌ، وله فمٌ فيما بين مناسر السّباع وأفواه البوم، وفيه أسنانٌ حِدادٌ صِلابٌ مرصوفةٌ من أطراف الحنك إلى أصول الفكِّ، وإذا قَبَضَت الخفّاش على فَرْخها، وعضَّت عليه لتطير به عَرَفَت ذَرّب1 أسنانها فتجعل العضَّ أزمًا ولا تجعله تَنْيِيْبًا ولا عضًّا شديدًا كما تفعل الهرّة بولدها. فإنّها مع ذَرَبِ أنيابها وحدَّة أظافرها ودِقَّتها لا تخدش له جلدًا. وهذا الطائر العجيب يغوص في الماء ثمّ يخرج منه كالشّعرة الّتي سَلَلْتَها من العجين، غير مُبْتَلِّ الجلد ولا لَثِقِ2 الجناحين. والخفافيش تترك ذُرى الجبال وبسيط الفيافي وتجيء تطلُب مساكن النّاس حيث تعيش في أرفع مكانٍ وأحصنه، وهي موصوفةٌ بطول العمر كالعقاب والورشان3 والنِّسر.
عن الجاحظ
كتاب الحيوان
- ذرّب: حدة.1
- لثق: ابتلّ ريشه.2
- الورشان: طائر من الفصيلة الحماميّة.3