تأثير الأصوات في النّاس والحيوان
من الأصوات ما يُكْمِد كأصوات النائعات أو يخلق الخوف والرّعب كصوت الصّاعقة، ومنها ما يسرّ النّفوس حتّى يُفرط عليها السّرور فتقلق حتّى ترقص، وذلك مثل الأغاني المطربة والأصوات الشجيّة والقرَاءات المُلَحّنة وليس يعتري السّامعين ذلك من قبل المعاني، لأنّهم كثيرًا ما لا يفهمون معنى الكلام المرتَّل والقراءة الملحّنة، وقد بكى ماسَرْجَوَيه1 من قراءة أبي الخوخ فقيل له: - كيف بكيت من كتاب اللّه ولا تصدّق به؟ قال:
- إنّما أبكاني الشَّيحا!
وبالأصوات ينوّمون الصبيان والأطفال. والدّواب تصرّ2 آذانها إذا غنّى المكاري، والإبل تصرّ آذانها إذا حدا في أثرها الحادي، وتزداد نشاطًا وتزيد في مشيها؛ ويجمع بها الصيّادون السمك في حظائرهم الّتي يتّخذونها له وذلك أنّهم يضربون بعصيّ معهم ويعطعطون3، فتقبل أجناس السّمك شاخصة الأبصار مصغية إلى تلك الأصوات، حتّى تدخل في الحظيرة، ويُضرب بالطّاس للطّير وتصاد بها، ويضرب بالطّاس للأُسْدِ وقد أقبلت، فتروّعها تلك الأصوات.
وقيل إنّ الأيائل تُصاد بالصّفير والغناء، وهي لا تنام مادامت تسمع ذلك من حاذق الصّوت فيشغلونها بذلك ويأتون من خلفها، فإنْ رأَوها مسترخية الآذان، وثبوا عليها، وإنْ كانت قاتمة الآذان فليس إليها سبيل. والصفير تُسقى به الدواب الماء، وتنفَّر به الطَّير عن البذور.
والحيَّة واحدة من جميع أجناس الحيوان الذي للصوت في طبعه عمل، فإذا دنا الحوّاء4 وصفّق بيديه وتكلّم رافعًا صوته حتّى يُزَيِّد5، خرج إليه كلّ شيء كان في الجحر، فلا يشكّ من لا علم له أنّ الحيّة خرجت من جهّة الطاعة وخوف المعصية، وإنّ العامر أخرجها تعظيمًا للعزيمة، ولأنّ المعتزم مطاع في العُمّار، والعامّةُ أسرع شيءٍ إلى التصديق.
عن الجاحظ
كتاب الحيوان
1- ماسرجويه: طبيب بَصْريّ يهوديّ وكان أحد التراجمة من السريانيّة إلى العربيّ.
2- تصرّ: تنصبُّ الأذن للإصغاء، من صرّ.
3- يعطعطون: من عطعط، عطعطةً، أي عمل أصواتًا مختلطةً متتابعة.
4- الحوّاء: مربي الحياة.
5- يُزيِّد: جَعَلَه يزيد ويزداد.