الحرّيّة
خُلق الإنسان حرًّا، يريد أن ينمو ويعيش في جوّ من الحرّيّة، التي تسهّل له نموّ شخصيّته بجانب نموّ جسده، ولكنّ هذه الحرّيّة التي على جليل شأنها، بالنسبة إلى المرء تأتي في الدرجة الثانية، والأمر الأوّل والأهمّ هو الغذاء. لأنّ الحرّيّة كما قلت، يتوقّف عليها نموّ الآدميّة الإنسانيّة، ولكنّ الأمر الثاني يتوقّف عليه بقاء الإنسان، إذ لولا الغذاء لدبّ الفناء إلى الجسم والآدميّة معًا، وغريزة البقاء هي أقوى الغرائز، لهذا ذكر أنّه في المرتبة الأولى؛ والحرّيّة أهم ما يبتغيه المرء بعده، والمقصود بالغذاء المادّة الضروريّة للعيش والبقاء، ولا دخل له بالكماليّات المتمّمة لحياة الترف.
فالمرء إذا خُيّر بين حياة الحرّيّة وعيش الترف، فلا مراء في أنّه لا يتلكّأ في تقديم الأولى وإيثارها والاكتفاء بها دون الثانية، إذا ما كانت هذه الأخيرة عائقًا لها يَسدُّ عليها أبواب التطوّر.
وللحرّيّة منزلة سامية في نفس الفرد ونفوس المجموع، والطفل إذا قيّدته بالقماط، صرخ وبكى، وإذا فككته من قيده، تهلّل وجهه وبدت عليه علامات الغبطة؛ والشابّ إذا ضغطت على حرّيّته، كثيرًا ما ينتفض عليك ويرتكب أفعالًا لا تُرضي أحدًا. وكم من شعوبٍ ثارت على حكّامها ومستعمريها وسفكت الدماء تحقيقًا لحرّيّتها، وأمثال التاريخ على ذلك شواهد مقنعة.
وللحــرّيّـة الحـمراء بـابٌ بـكلّ يــدٍ مـضرّجةٍ يُــدقُّ
وحبّ الحرّيّة هذه، فطريّة في الحيوان والطير أيضًا. فإذا حبست قطًّا في مكان ما، وحاولت سدّ منافذ الخروج عليه، خدشك بمخالبه، وأدمى بنانك، وقد يتعلّق بمخنقك دفاعًا عن حرّيّته! وإذا أسرت عصفورًا ووضعته في قفص، اضطرب وضرب قضبان القفص برأسه، ونقرها بمنقاره وأقبل وأدبر، وعلا وانخفض، يريد الإفلات والانطلاق في الفضاء الحرّ. وهكذا يُقال عن سائر الطيور والوحوش.
ولكنّ الحرية التي يقدّسها الإنسان العاقل ليست حرّيّة مطلقة يستطيع بموجبها أن يصنع ما يشاء من أفعال أو ينطق بما يريد من أقوال. إنّ هذه الحرية لا توجد إلّا في قواميس المخبولين. فالطير في البرّيّة والغابة، يقيّده جنح الظلام في الليل، فيتوقّف قسرًا عن الطيران والتحليق. والوحش المحبّ للحرّيّة والعائش في فضائها يقيّده الثلج والبرد في مغارته أو وجاره، والمدّ والأمواج الغاضبة الصاخبة الجانحة إلى الإفلات في الفضاء اللّامتناهي، والسيطرة على اليابسة، تلجمها جاذبيّة الكون.
وهذا كلّه يُثبت أنّ الحرّيّة المطلقة غير واقعيّة. أمّا الحرّيّة التي نقصدها فهي الحرّيّة المقيّدة، الحرّيّة الطبيعيّة التي تقرّها الطبيعة بذاتها والتي هي من طبيعة الأشياء، ويقرّها الله بواسطة أنبيائه ورسله، ويقرّها العقل السليم والمصلحة الفرديّة والجماعيّة.
والقيود للحرّيّة لا تعني انتقاص منزلتها، بل إنّها من متمّماتها ومقوّماتها. فالأفراد والشعوب التي لا تتقيّد بها، ليست جديرة بالحياة الحرّة. وكم رأينا من هؤلاء قد فقدوا حرّيّتهم لجهلهم معناها الحقيقيّ.
نعم إنّ المرء حرّ في أن يقتني سيّارة، ولكنّه لا يقدر أن يسوقها متى شاء وحيث شاء، ويطلق العنان لزمورها حين يشاء. والموظّف حرّ، ولكن لا يسعه أن يحضر إلى مكتبه في الوقت الذي يريد، ولا أن يعمل ما يريد. والمعلّم حرّ، غير أنّه لا يعلّم دائمًا العلم الذي يريد، ولا يجيء إلى المدرسة وفقًا لما توحي إليه أهواؤه. والتلميذ حرّ، إلّا أنّه لا يمكنه التكلّم والقيام والقعود والانتقال والتسميع وتقديم الفروض في الأوقات التي يحبّ.
كلّ هؤلاء أحرار، إنّما هناك أنظمة وقوانين مسنونة تقيّد حرّيّتهم المقدّسة، وقد قضى بها العقل السليم ومصلحة كلّ منهم ومنطق الأمور منذ وجد الإنسان، وقد تطوّرت بتطوّر حرّيّة الإنسان ونمت بنموّها، فحيث توجد حرّيّة حقيقية، توجد أنظمة وقوانين راقية.
فإذا ما أردنا معشر أبناء هذه البلاد العربيّة أن ننمّي حرّيّتنا، ونسمو بإنسانيّتنا، ونرفع وطننا، فما علينا إلّا أن نغرس فينا حبّ التقيّد بالقانون العادل؛ والنظام هو المقياس الأول عندي لرقيّ الأفراد والشعوب.
يوسف س. نويهض