المدنيّة نتيجة اليد الخشنة
والعقل والقلب
المدنيّة كلمة غزيرة المعاني، تشمل كلّ ما خلّد الإنسان من جليل الأعمال: فالآثار القديمة وسدود المياه لتحسين حالة الأرض والمدن العامرة وكتب العلم والأخلاق والدين والمؤسّسات الصناعيّة والعلميّة والمستشفيات والسماحة والمحبّة والتضحية وسائر السجايا الإنسانيّة، عناصر ترتكز عليها المدنيّة، وقد اشتركت فيها اليد، والقلب، والعقل معًا؛ فلو انفرد كلّ من هذه الأقانيم الثلاثة في العمل لكانت المدنيّة بتراء لا شأن لها. فاليد العاملة، اليد الخشنة هي التي شيّدت في سالف العصور مباني تدمر وبعلبك وأثينا وروما وأهرام مصر والحمراء وجامع قرطبة وهي التي فتحت ترع بناما والسويس وكورنتس، وبنيت الجسور العالية وأقنية الريّ، وشادت في العصور الحديثة المعامل الضخمة وصنعت السفن والقطارات والسيّارات والطيّارات.
نعم كلّ هذا قد عملته يد العامل الخشنة. ولكن، إذا كان لهذا العامل الفضل الكبير في خلق كلّ ذلك، فإنّنا لا ننسى أنّه لولا العقل المدبّر الذي أوحى إلى اليد لتعمل، لما كانت تلك الآثار، ولما كان لها أي حظّ في البقاء والثبات والخلود. إنّ العقل النيّر هو الذي فكّر وخطّط ودبّر، ولم تكن اليد إلّا منفّذًا لما أمر: فالآثار المخلّدة التي ذكرت ليست إلّا وليدة هذا الجبّار الذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. وجميع الاختراعات وأكثر الاكتشافات قاد إليها العقل، وقد قال المتنبّي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
أمّا القلب فما شأنه في بنيان المدنيّة؟
هذا سؤال قد يتبادر إلى ذهننا. ولكن لنعلم أنّ أعمال اليد ومنتجات العقل لولا القلب الذي يصدر عنه الأعمال النبيلة الإنسانيّة، لما كان لها قيمة جليلة القدر، لأنّ الذي يخلّد المرء ويسمو به ويجعل للمدنيّة مدلولًا رفيعًا، هو سجاياه القائمة على القلب. وليست المستشفيات ومؤسّسات البرّ ومشروع المحبّة والإخاء إلّا مظهرًا من مظاهره، ولولاه لفقدت مدنيّتنا التي بها نتباهى معانيها الروحيّة.
فالمدنيّة إذًا سلسلة ذات حلقات ثلاث، هي اليد والعقل والقلب، إذا انقطعت واحدة منها تفكّكت.
يوسف س. نويهض
1 كانون الأول 1954