البلبل

   سكن بُلبل قفصًا من النحاس الأصفر، كانت أسلاكه تعكس أشعّة الشمس وميضًا يخطف البصر، فيتألّق بالبرق كما يتألّق قصر الملك بين الأضواء، وفي ركن منه فنجان من الأحجار الكريمة الخضراء لوضع الماء الذي يشرب منه، يشفّ صفاء لون الماء ونقاؤه عن صفاء لون الفنجان، وآخر من العقيق لوضع الحبوب التي تشبه حبوب العقيق الصغير، وثلاثة عيدان عاجيّة يقف عليها إذا أراد أن يستريح. وأمّا خارج القفص فقد أحيط بستار من الحرير الناعم يمدّ رواقه عليه ليلًا.

   وكان ذلك البلبل غزير الريش الناعم المرتّب في استرساله، وكان يأكل أكلًا لذيذًا جيّدًا، ويستحمّ في كلّ يوم، ويحيا حياة رغدةً، فرحًا مسرورًا، كلّما ملأ حوصلته بالأكل اللّذيذ ونضح جسمه بالماء النقيّ أخذ يمرح في أرجاء القفص، فتارة يقف على عود العاج في جانب القفص الأيمن ومرّة يقف على العود الآخر في وسطه، وأحيانًا يقف على الأسلاك، وكلّما وقف في مكان من هذه الأماكن صفّق بجناحيه وأدار رأسه يمينًا وشمالًا ونظر حوله بخفّة وظرف، ثمّ لا يلبث أن يعاود طيرانه ورقصه.

   واستطاع البلبل بصوته الرقيق الناعم أن يغنّي غناءً جميلًا رائعًا، إذا سمعته شعرت بنشوة وسرور. وكان صاحبه يجلب له الماء من عينٍ في الجبل، ويغسل الحبوب وينتقي منها الحَبّ السمين المستدير وينقّي عنها الحصا والتراب ثمّ يقدّمها له لأنّه أحبَّ غناءه الذي يسرّه ويطربه غاية السرور ونهاية الطرب.

   فلمّا أدرك البلبل أنّ صاحبه يحبّه ويحبّ غناءه، غنّى له بدون انقطاع، حتّى تعب تعبًا شديدًا. وكان لا يرى في غنائه شيئًا جديرًا بإعجاب أو حبّ، فعجب لحبّ صاحبه الجمّ، وإعزازه إيّاه، وكان صاحبه يدعو أصدقاءه وصديقاته أحيانًا ليسمعوا تغريد بلبله قائلًا لهم: "إنّ عندي بلبلًا جميلًا ظريفًا، وأحبّ أن أدعوكم لتسمعوا غناءه".

   ومرّ الزمان يومًا بعد يوم والبلبل في قفصه مرح فرح، ويغنّي لصاحبه ولأصدقائه بدون توانٍ، ولكنّه لا يفهم سرّ إعجابهم بغنائه الذي لم ير فيه موجبًا للإعجاب.

   وسيطر الشكّ على البلبل من أجل ذلك، وعزم على أن يحاول معرفة سبب هذا الإعجاب. وذات يوم فتح صاحبه باب القفص وقدّم له الحبوب الجديدة والماء الصافي ثمّ انصرف ونسي أن يغلق الباب، فخرج البلبل من القفص وطار إلى سطح البيت، فلم يلبث أن دهش بما حوله من مشاهد كمشاهد الجنّة؛ ففي السماء الزرقاء طفت السحب البيضاء كأشرعة السفن الصغيرة، وتحرّكت أطراف الصفصاف الخضراء حركة خفيفة جميلة، وابتسمت زهور المشمش الحمراء للنسيم ابتسامة جذّابة، وأحاط الضباب الخفيف الأبيض بالجبال البعيدة، فصارت كأنّها في سبات عميق، وتعجّب البلبل من هذه المناظر الجميلة، فطار راقصًا في الهواء زمنًا طويلًا.

   ونسي قفصه وعزم على أن يغادر سطح البيت ففتح جناحيه وشرع طائرًا في رحلة طويلة. وبعد أن مرّ فوق السهول الخضراء السندسيّة والأودية الرمليّة الواسعة، والنهر الأصفر ذي الماء العكر بلغ مدينة من المدن، فوقف على باب قلعتها ثمّ أطلّ على شوارعها، فظهر كلّ شيء أمامه واضحًا جميلًا.

   ورأى البلبل في هذه المدينة منظرًا عجيبًا، فهذه شوارعها وفيها آلات كبيرة جدًا، على جانبي كلّ منها عجلتان، قد جلس في كلّ واحدة رجل وجرّه آخر يعدو سريعًا كالطائرة جيئةً وذهابًا، فقال في نفسه ما دامت لهؤلاء أرجل فلماذا جلسوا على هذه الآلات ولم يمشوا بأنفسهم وتركوا الناس الآخرين يجرّون بها. وأطال التفكير ولم يعرف لذلك سببًا. وحزن حزنًا شديدًا وغنّى رثاءً لهؤلاء المساكين الذين يجهدون أنفسهم من أجل غيرهم ويعملون عملًا ليس فيه فرح وسرور.

   ولم يرضَ البلبل عن منظر هؤلاء المساكين، فأراد أن يذهب إلى مكان آخر، فطار إلى بيت ووقف على شرفته التي غطّت جوانبها بطلاء أخضر، وعندما نظر إلى داخل حجرة من حجراته وجد أصحاب البيت قد لبسوا ثيابًا جميلة فاخرة، واجتمعوا حول موائد قد فُرشت عليها الأقمشة البيضاء الناصعة، ووضعت عليها الملاقط والملاعق اللّامعة، والكؤوس الزجاجيّة البديعة الشكل، وصحاف الخزف الصينيّ المزخرفة، وآنية الورود الظريفة عمرت بشتّى الزهور من شتّى الألوان، ورأى أنّ أولئك الناس جميعهم ذوو وجوه لامعة ظهر في قسماتها الكبر والاغتباط، ولفت نظره حركة في إحدى الحجرات في الطابق الأسفل من البيت، فرأى أنّ الحال فيها خلاف الحال في الحجرة الأولى التي أمام الشرفة.

    فقد قطعت أجسام السمك أنصافًا وعُلّقت على الحائط مع اللّحوم المفرومة، والدجاج والبطّ بجانب، والقصاع والجفان والصحاف على اختلاف أنواعها بجانب آخر، والدلاء التي امتلأت بالمياه النقيّة والقذرة وأواني الملح والزيت والخلّ بجوار الحطب والفحم، وكلّ هذه الأشياء قد تبعثرت في الحجرة بدون ترتيب؛ ورأى فيها رجالًا يطبخون، وقد اختلطت القذارة بالزيت على أجسامهم، وصدّت الروائح النتنة تنفّسهم، وغلى الزيت في القدور وارتفع فورانه حتّى كادت أيديهم أن تدخل فيه، وخرجت ألسنة النار من تحت القدور تلدغ أعضاءهم فتحرقها، ولمّا نضج الطعام ووضعوه في الصحاف، أقبل خادم يلبس ثيابًا بيضاء حمله إلى الحجرة التي يجلس فيها ذوو الوجوه اللّامعة، ووضعه على الموائد، فتحرّكت الملاقط والملاعق، وهي تلمع صاعدة نازلة بين أفواههم والصحاف، وأخذوا يأكلون بشهيّة ولذّة.

   وحزن حزنًا شديدًا وغنّى رثاء لهؤلاء المساكين الذين يعملون كأنّهم آلات للطهو ويجهدون أنفسهم ليتمتّع غيرهم بالطعام اللذيذ ولا يشعرون براحة ولا سرور.

   ولم يرضَ البلبل عن بقائه في هذا المكان ورؤية هؤلاء المساكين، وأراد أن يذهب إلى مكان آخر، فطار فوق المدينة ومرّ بزقاق منحنٍ خالٍ من الضوضاء، فسمع من أحد بيوته صوت رباب وفتاة تغنّي، فحطّ على سطح البيت، ثمّ نظر من مسقط الضوء الزجاجيّ إلى داخل البيت، فرأى رجلًا أسمر طويل القامة يعزف بالرباب، وفتاة تناهز الثانية عشرة او الثالثة عشرة من عمرها تغنّي مع الرباب، فقال في نفسه ما أسعد هذين الشخصين، أحدهما يعزف والآخر يغنّي، إنّهما يعرفان فنون الموسيقى والغناء ويتمتّعان بها، فما أعظم ذلك!

    ودقّق سمعه في الموسيقى والغناء فوجد أنّ الواقع لا يوافقه على تقديره ذلك، فقد كانت الفتاة تغنّي في تخامل وتكلّف، كلّما أجهدت نفسها في الغناء احمرّ وجهها، وتجعّد جبينها، وانتفخت أوداجها وأخذ صدرها يعلو ويهبط، واندفع الصوت من فيها شديدًا كتدفّق الماء، حتّى كاد أن ينقطع نفسها ثمّ حشرج، فثار الرجل وصاح قائلًا: "أعيدي هذا الصوت مرّة أخرى وأحسنيه، فإنّ الناس لا يعجبون لهذه الحشرجة"، فلمّا انتهى من كلامه كانت الفتاة في حالة فزع ورعب، فابتدأت تعيد الصوت، وأجهدت نفسها في ضغطه كي لا يُحشرج مرّة أخرى، فاستحالت حمرة وجهها زرقة كلون البنفسج حتّى صار مظهرها كمظهر الباكية.

   ففهم البلبل الحقيقة وقال: "إنّ هذه الفتاة تغنّي ليطرب غيرها، وأمّا هي فلا تريد أن تتعب مثل هذا التعب المضني، ولا تطرب لذلك الغناء المتكلّف، وكم ودّت أن تستريح قليلًا ولكنّها لا تملك ذلك، إذ يجب عليها أن تحفظ الصوت حتّى تجيده لتغنّيه أمام الناس، قد يكون وقت التمرين غير قصير، ولكنّ الرجل يكرهها على التمرين كي تسمع الناس؛ وأخذ يعزف على الرباب هو الآخر حتّى يجيد ويعزف للناس أيضًا، فهم يحبّون أن يسمعوا الموسيقى والغناء، لذلك لم يعرف الرجل والفتاة طعم الراحة أو معنى السرور".

   تأثّر البلبل لذلك فغنّى رثاءً لحظّ هذين الشخصين اللذين يتحاملان على نفسيهما ويتكلّفان الغناء والعزف ليطرب الناس، ولا ينعمان براحة ولا يلتذّان بسرور.

   وتأمّل البلبل فيما رأى فشعر بأنّ حياته وحياتهما صنوان في البؤس، وأنّهما أليفان في الشقاء، فعزم على ألّا يرجع إلى صاحبه، وزهد في سكن القفص النحاسيّ الذي يشبه القصر. وأدرك أنّه مثل هؤلاء المساكين، فحزن لهم ولنفسه، وبكى كثيرًا فسالت الدموع من عينيه كأنّه الطائر الباكي "دوجان".

   ورحل البلبل إلى وادٍ بعيد عن القرى والمدن، وسكن فوق شجرة عالية من أشجاره ذوات الأشواك، إذا جاع اغتذى من حشائش الوادي أو ثمر شجره، وإذا أراد الاستحمام ذهب إلى ترعة هناك واستحمّ في أحد جوانبها، وعندما يأتي النهار يطير في الهواء حرًّا نشيطًا لا حبيسًا في القفص، وإذا تعب حطّ في أي مكان يريد وأخذ قسطه من الراحة. وكلّما رأى ما يحزنه صدح بالغناء ليزيل الألم من قلبه. والعجيب أنّه يسرّ بذلك الغناء ويواسي قلبه، بل أنّه لا يملك صبرًا عن ترديده، حتّى أنّه ليشعر بانقباض القلب وضيق النفس إذا توانى عن الغناء قليلًا، فإذا غنّى انشرح صدره وانبسطت أسارير نفسه، وعرف معنى الغناء ولذّته.

   ولمّا سمع تغريده العامل المجهَد، والفلّاح المكدود، والغزالة المسكينة التي تشتغل طول يومها، والعدّاء الذي يجرّ العربة حتّى ينقطع نفسه لشدّة الجري والبقرة العجفاء التي تعرّى جلدها من الوبر، والحمار النحيف الذي ظهرت عظامه من تحت جلده، والقردة التي تمثّل أمام الناس، والحمام الزاجل، سرّوا به سرورًا كبيرًا وسلوا عن أنفسهم، ونسوا حزنهم وشقاوتهم، ورفعوا رؤوسهم جميعًا، وقد علت الابتسامة وجوههم وانشرحت للتغريد صدورهم، وصاحوا قائلين بأصوات رقاق "يا له من صوت جميل، ويا له من بلبل ظريف".

                                      مجلّة الثقافة عدد 340    

                                     ترجمة عبدالله ما جي كو

                                   للكاتب الصينيّ ياه شاو كين