السنونوة

   ما أجمل زهور الأقحوان تحت شجرة الصفصاف الخضراء. كانت كالنجوم ترسل أشعّتها الذهبيّة فوق الأرض لامعة، وهبّت الريح تداعبها وتدفعها وتحرّكها بلا انقطاع، فتحرّكت الزهور حركة خفيفة كأنّها خجلت من تلك المداعبة.

   وبجوار زهور الأقحوان رقد حيوان صغير، قد فتح فمه الأصفر ينتظر قبلة أمّه الحارّة، ولكنّ الأم لم تأتِه فحزن وصاح؛ كان هذا الحيوان الصغير جميلًا ظريفًا، على جسمه ريش ذهبيّ لامع، وفي عنقه عقد أحمر، ولكنّه مسكين لأنّه جريح قد سال على ظهره الدم. ولم يكن هذا الحيوان الصغير يعرف أنّ في هذه الدنيا شرًّا وألمًا، فكيف يحذّرهما ويدفعهما عن نفسه...

   عندما أصبح الصباح استيقظ من النوم وغنّى أناشيده الصباحيّة وقبّل أمّه وضحك قائلًا لها:

- إنّي أريد أن أرى مناظر الربيع الجميلة، وأسمع أغنية جيراننا الرائعة، فهل تسمحين لي بأن أخرج وأتنزّه قليلًا يا أمّي العزيزة؟

   وأذنت الأمّ له بأن يخرج، وقبّلت عنقه الأحمر قائلة:

 - اخرج مع سلامة الله يا حبيبي.

   فخرج الحيوان من البيت، وسمع في طريقه نجوى الأنهار الجارية، ورأى ابتسامات الأزهار الخفيفة، ووقف على قمّة التلّ الصغير يغنّي أناشيده، واستحمّ في جانب الترعة الجميلة الجذّابة، ثمّ شعر بتعب وأراد أن يستريح قليلًا، فوقف على فرع من فروع الصفصاف الخضراء.

   وفجأة أصابت ذلك الحيوان حصاة من الطين وسط ظهره، وهو لا يعرف مصدرها، فشعر بألم وسقط من فرع الصفصاف إلى الأرض بجوار الأقحوان، وقلب ريشه بمنقاره الصغير فوجد شيئًا أحمر يبلّل ظهره فعرف أنّه دم، فزاد ألمه وبكى وصاح قائلًا:

- أين أنت يا أمّي العزيزة؟ لقد جرح حبيبك، أين أنت يا أمّي العزيزة"؟

   ولكن الأمّ في مكان بعيد لا تستطيع أن تسمع بكاءه، ولمّا سمعت شجرة الصفصاف الخضراء بكاءه واسته قائلةً:

- يا صغيري المسكين، لقد جرحت، هل تظنّ أنّه ليس في هذه الدنيا ألم ولا شرّ؟ أين أمّك؟ لو لم تكن بدني ليّنة ضعيفة لكنت أساعدك.

   وسمع ماء الترعة بكاءه فواساه قائلًا:

- أيّها الصديق الصغير لقد جرحت، هل تظنّ أنّه ليس في هذه الدنيا ألم ولا شرّ؟ أين أمّك؟ لو لم تكن الشواطئ تحيط بي وتحجزني لكنت أغسل جرحك.

   ولمّا سمعت النحلة بكاءه واسته قائلة:

- أيّها الصديق العزيز لقد جرحت، هل تظنّ أنّه ليس في هذه الدنيا ألم ولا شرّ؟ أين أمّك؟ لو لم يكن جناحاي ضعيفين رقيقين لكنت أحملك إلى منزلك.

   وأمّا الأقحوان الذي يرقد بجواره فقد سمع بكاءه عن قريب، فأشفق عليه وواساه قائلًا:

- يا صغيري الجميل، لا تبكِ، إنّ أمّك ستأتي ههنا، فاسترح عندي قليلًا، إنّي أحفظك وأمرّضك، فاهدأ ولا تبكِ.

   كان ذلك في أثناء عطلة الصبيّة "كين"، فخرجت من منزلها تريد أن تقطف الزهور كي تهديها إلى صديقتها "بوعا" وكانت "كين" تلبس رداء أزرق، وقد عرّت ساعديها وهبّت الريح تداعب شعرها المنهدل على كتفيها، وكانت تمشي بخطى وئيدة وقد شاع السرور في جوانحها.

   قطفت "كين" بعض الزهور الحمراء والبيضاء، ولمّا رأت زهور الأقحوان الصفراء أرادت أن تقطف بعضها، فلمّا دنت منها سمعت بكاء الحيوان الصغير، فتلفّتت حولها، فرأته وقالت:

- يا لها من سنونوة صغيرة جميلة، ولكن ما هذا الدم الذي بلّل ريشها الذهبيّ اللّامع.

   فوضعت الزهور على الأرض، وأخذت السنونوة الصغيرة، وأخرجت منديلها الأبيض من جيبها، وجفّفت به دمها، ومسحت ريشها مسحًا خفيفًا وقرّبت خدّها الأيمن من جسمها قائلة بصوت رقيق:

- يا صغيرتي المسكينة، إنّك متعبة من ظلمك، إنّي أظنّ أنّ ألمك قد ذهب، وسأنيّمكِ على سرير وثير وأطعمك طعامًا لذيذًا، وأكون لك صديقة مخلصة، فاذهبي معي إلى بيتي يا صغيرتي.

   ولمّا رقدت السنونوة الصغيرة في يد "كين" الناعمة، شعرت بدفء وراحة، فخفّ الألم عنها، وكفّت عن البكاء، ولكنّها عادت فتذكّرت أمّها فهتفت قائلة:

- يا أمّاه، إنّي الآن وجدت صبيّة جميلة كريمة وهي تحبّني وستأخذني إلى بيتها، وأرجو منك أن تأتي إليها لتزوريني، وإنّي الآن وجدت الراحة والسلامة، وأرجو منك أن تأتيني للحال.

   ولمّا رأت شجرة الصفصاف الخضراء وماء الترعة والنحلة والأقحوان أنّ الصبيّة أخذت السنونوة الصغيرة، استراحت قلوبها، وودّعتها بعبارة رقيقة: "اذهبي أيّتها السنونوة الصغيرة. مع هذه الصبيّة إلى بيتها. إنّها صبيّة كريمة تحبّك كما نحبّك نحن. فإذا جاءت أمّك إلى هنا نخبرها عن مكانك. وإلى اللّقاء يا صغيرتنا السعيدة".

   وأخذت "كين" السنونوة إلى بيتها ثمّ ذهبت إلى بيت "بوعا" وقدّمت لها الزهور وأخبرتها بالقصّة، فلمّا سمعت "بوعا" خبر السنونوة سرّت سرورًا وقالت "لكين":

- يجب علينا أن نرعاها بكلّ اهتمام كي نرجع إليها نشاطها.

   فقدّمت "كين" للسنونوة طعامًا لذيذًا، وجاءت "بوعا" بحشائش ليّنة وفرشتها في صندوق وجعلته عشًّا للسنونوة، فلمّا شبعت السنونوة شعرت بحاجتها إلى النوم، فوقفت "كين" و "بوعا" أمامها وغنّتا لها أناشيد النوم قائلين: "نامي آمنة يا صغيرتنا، فإذا جاء القطّ ضربناه وإذا جاء الكلب طردناه، نامي آمنة يا صغيرتنا". فنامت نومًا عميقًا.

   ولمّا استيقظت السنونوة من النوم، رأت الصبيّتين مبتسمتين أمامها، وفكّرت قليلًا فتذكّرت قصّة جرحها وإنقاذ الصبيّة حياتها وقالت:

- يا أمّاه، لماذا لم تأتي ههنا. أظن أنّك الآن تبحثين عنّي ولكنّك لا تعرفين أنّني أنتظرك هنا، إنّ الصبيّة تكرّمني، ولكن لماذا لم تدعك إلى هنا؟ ونزلت دموع الشوق من عيونها بلا انقطاع.

ورأت "كين" أنّ السنونوة تبكي فحزنت وبكت هي الأخرى وقالت لها:

- اصبري يا صغيرتي، إنّنا لا نعرف مكان أمّك فكيف ندعوها إلى هنا؟

ونزلت الدموع من عين السنونوة ولم تتكلّم، وقالت "بوعا" لها:

- إنّك تجيدين الغناء، ونحبّ أن تسمعينا، وسأغنّي لك كي يخفّ حزنك.

 "من أين جاءت الرياح

ومن أين جاءت المناظر الجميلة الجذّابة

يا صغيرتي الجميلة، يا ذات العنق الأحمر

إنّك جئت بتباشير الربيع".

   وطربت "كين" من غناء "بوعا" طربًا زاده روعة وجمالًا، وقرّبت "كين" وجهها من الصندوق وقالت للسنونوة:

- هل سررت بهذا الغناء؟ وهل هو حسن مثل غنائكِ؟

وكانت السنونوة تحبّ الغناء حبًّا جمًّا، فلم تملك نفسها، وغنّت غناءً حزينًا:

"أين أنت يا أمّي العزيزة

إنّ حبيبتك ههنا

من يخبرك بأنّني هنا

هل تبحثين عنّي في قمم الجبال

هل تبحثين عنّي في جوانب الأنهار

أريد أن أنام في حجرك

من يخبرك بأنّني هنا".

فربّتت "كين" كتف "بوعا" قائلة:

- لنكتب لها إعلانًا وننشره في الجرائد، فإذا قرأته أمّها أتت هنا في الحال.

فجاءت "بوعا" بالقلم والورق على عجل، وقالت:

- إنّني أكتب لها، إنّني أكتب لها.

"أمّي العزيزة، لقد أصابتني الأقدار، فجُرحت جرحًا خفيفًا، وأخذتني الصبيّة "كين" إلى بيتها وعالجت جرحي، وأرجو منك أن تأتي إلى بيتها للحال، وتطيري إليّ على قدر جهدك ولكن لا تتعبي كثيرًا. تعالي يا أمّي العزيزة، تعالي يا أمّي العزيزة. صغيرتك المحبوبة".

   فضحكت "كين" وقالت للسنونوة:

- إذا قرأت أمّك هذا الإعلان أتت إلى هنا للحال، فكفّي عن بكائك ولا تحزني.

   فجفّفت السنونوة دموعها ووقفت "كين" و "بوعا" بجوارها تقصّان عليها قصص الأطفال الجميلة، وعندما جاء الليل غنّتا لها تحت النور الذهبيّ أناشيد الملائكة حتّى أخذها سبات عميق، ورأت السنونة في النوم أنّها تزور مع أمّها الحجل، وقضتا عنده زمنًا طويلًا.

   وعندما أصبح الصباح، جاءت أمّ السنونوة تطير مسرعة إلى بيت "كين" ولمّا رأت بنتها الصغيرة فتحت لها جناحيها وحملتها في حجرها قائلة:

- لقد بحثت عنك كثيرًا وتعبت حتّى كدت أموت، أين جرحك يا حبيبتي؟

   ولمّا رأت السنونوة الصغيرة أمّها فرحت فرحًا شديدًا، ونزلت الدموع من عينيها بلا انقطاع، وفتحت فمها الصغير الأصفر وقبّلت أمّها قبلات حارّة، وقالت:

- عندما وجدتك بجواري شعرت براحة كبيرة وسررت غاية السرور، وإنّ جرحي قد التأم وآلامي قد ذهبت.

- هذا لحسن حظّك، ولا تظنّي بعد الآن أنّه لا يوجد في هذه الدنيا ألم ولا شرّ.

- لقد وجدت في رحلتي هذه المواساة والعطف والقلوب الطيّبة، وأمّا الشرّ فقد أصابني من حيث لا أدري، فلذلك أعتقد أنّه ليس أصيلًا في هذه الدنيا، وكأنّه لم يكن موجودًا، وأظنّ أنّها المرّة الأخيرة التي قد يصيبني فيها.

فقالت الأمّ في عطف زائد:

- لنرجع إلى بيتنا.

ونظرت السنونوة الصغيرة إلى "كين" و "بوعا" قائلة:

- لا تبكيا يا آنستي، إنّي سآتيكما كلّ يوم لأزوركما، وإذا كان عندي غناء جميل فسأغنّي لكما، وإذا كنت أملك شيئًا قيّمًا فسأقدّمه هديّة لكما جزاء إكرامكما لي.

   وذهبت السنونوة مع أمّها، وبعد ذلك أخذت تتردّد على "كين" و "بوعا" لتزورهما وتغنّي لهما غناءً رائعًا وترقص معهما رقصًا جميلًا، وعندما ترجع في الربيع كلّ عام من الجنوب، تقدّم لهما المرجان الأحمر والأبيض والمحارة الجميلة.

                              مجلّة الثقافة عدد 399

                             ترجمة عبدالله ما جي كو

                           للكاتب الصينيّ ياه شاو كين