النّاطور

   في ليلة من اللّيالي الّتي امتلأت سماؤها بالنجوم المتلألئة، وقف الناطور يحرس الحقول، ويحرِّك مروحته في يده حركة خفيفة؛ ورأى حبوب الأرزّ الجديدة فوق سيقانها عندما مرّت بها الريح، فاصطدم أكتاف بعضها بأكتاف بعضها الآخر، فكان حفيف اصطدامها حفيفًا رائعًا. وأرسَلت النجوم أضواءها على أعواد الأرزّ، فاكتست لونًا من الخضرة قاتمًا، جعلها أجمل ممّا كانت في أوّل عهدها؛ فسُرَّ الناطور منها سرورًا كبيرًا، وتيقَّن أنَّ محصول الأرزّ في هذه السنة سيقنع صاحبته، ويشرح صدرها فتبتسم، لأنَّ عهده بها منذ زمن طويل لا تبتسم، إذ كانت تلك المرأة عجوزًا فقيرة مسكينة، قد توفَّى زوجها قبل تسع سنوات، فبكت عليه بكاءً شديدًا حتّى احمرّت عيناها، ومازال الدَّمع ينزل منهما أحيانًا من غير بكاء؛ وحين مات زوجها لم تكن تملك نقودًا لدفنه، فاقْتَرضتها من بعض الناس، ووارته التّراب، ثم أجهدت نفسها مع وحيدها في زرع حقلها الصّغير ثلاث سنوات، فكسبت النقود وردَّتْها الى الدّائن. ولم يلبث وحيدها أن مات، فبَكَته أحرَّ بكاء وأمَرُّه حتّى أُغمي عليها، ممّا جعل قلبها يتألَّم حينًا بعد حين؛ وبعد ذلك أصابت حقلها كارثة الفيضان، فأغرقته سنتين لم تحصد منه شيئًا، فزاد نزول الدَّمع من عينيها حتّى صارت قصيرة النَّظر، لا تكاد ترى الأشياء إن بعُدت قدر خمس خطوات منها؛ ورسم الهَمّ على وجهها خطوطاً كثيرة حتّى أصبح كأنّه الموسى الجاف، لا تعبر الابتسامة قسماته أبدًا.

   وبينما كان الناطور يفكّر في ذلك جاءت حشرة ذات لون أصفر خفيف الى الحقل، فلمَّا رآها عرف للحال أنّها عدوّ الزرع وعدّو صاحبته أيضًا، ومن الواجب طرد مثل هذا العدوّ اللّدود من الحقل، فحرّك المروحة بيده بلا انقطاع، ولكنّ حركات المروحة كانت خفيفة ضئيلة، لا تستطيع أن تُفزع الحشرة وتُخرجها من الحقل.     

   ووقفت الحشرة على العود لا تتحرّك، وفكّر الناطور في مستقبل الزرع ودمْع صاحبته ووجهها المتجعّد الجّاف وحظَّها السيّء، فشعر كأنَّ قلبه قد طُعن بسنانٍ.

   وعندما رجعت النّجوم إلى بروجها، وغابت مناظر الليل عن الأنظار، طارت الحشرة من الحقل وغادرته، ونظر الناطور الى العود حزينا مضطربًا، فرأى أنّه قد قُطع من وسط ساقه، وتدلَّت أوراقه وجفَّت؛ ولما دقَّق النظر وجد أنَّ الحشرة قد وضعت بويضاتها خلف الأوراق، ففزع منها وذُعر، وقال في نفسه: إنَّ الكوارث ستُصيب صاحبتي المسكينة بغير شكّ، ولكنّ عينها ضعيفة النظر، لا تستطيع أن ترى مثل هذه البويضات بسهولة، فيجب عليَّ أن أُحذِّرها منها لتراها قبل أن تفقس وتصير حشرات، فتضرّ الزرع، ولْتَقضي عليها قبل أن يستفحل أمرها؛ فزاد تحريك المروحة في يده.   

وجاءت العجوز فنزلت إلى حقلها لتطمئنَّ على سلامته، فوجدت أنَّ الماء يكفيه، وهمَّت بالرّجوع. فلمَّا رأى الناطور ذلك حزن حزنًا شديدًا، وأراد أن يبقيها لتتفقّد أعواد الأرزّ بدقَّة، حتّى تجد بويضات الحشرة عدوَّها اللَّدود فتقضي عليها، فحرَّك المروحة في يده بِلا انقطاع، كأنّه يقول لها "يا صاحبتي العزيزة، لا تظنِّي أنّ كلّ شيء في الحقل على ما يرام؛ كلّا، بل اعلمي أنّ الكوارث ستُصِيبك، لأنّ الحشرة تركت بويضاتها في حقلك". ولكنّ العجوز لم تفهم هذا التحذير، ومشت بتؤدة خطوة خطوة حتّى ذهبت الى بيتها وغابت عن نظره، فوقف الناطور في الحقل حزيناً متحيِّرًا.

   وبعد بضعة أيّام، انتشرت الحشرات ذات اللّون الأصفر الخفيف في الحقل، وعندما سكن اللّيل، سمعها تمصّ عروق الأرزّ، وتُغيّر لون أوراقه الخضراء إلى لون فيه مظهر الموت، فلم يطِقِ النّاطور صبرًا على رؤية هذه المناظر المفزعة، وتلك اللّصوص التي ستُضَيِّع مجهودات صاحبته، فلا تحصد شيئًا في هذه السنة، ولا تكسب إلّا الدّموع والآهات، فأطرق رأسه وبكى بكاء مُرًّا.

   وفجأة سمع صوت امرأة ونظر إليها فوجدها صيَّادة، وكانت أمام الحقل تُرعة1 حيث رسا زورقها، وظهر من نافذته ذبالة2 من نور ضعيف، وأمّا المرأة فأعدَّت شبكتها ورمتها في التُرعة، وجلست على شاطئها تنتظر السمك.

   وسمع الناطور صوت سعال طفل يصدر عن الزورق حينًا بعد حين. ورأى المرأة ترفع الشبكة مرّة بعد مرّة ولا تجد فيها سمكة، ولمّا سمعت سعال ولدها ونداءه، حزنَت وقالت له "نم هادئًا وانتظر حتّى أصيد سمكًا فأبيعه غدًا وأشتري لك بثمنه قطعةً من الخبز تأكلها، لأنّك إذا ناديتني كثيرًا اضطرب قلبي وما عاد يمكنني أن أصيد شيئًا".

   ولكنّ الطفل لم يطق صبرًا، فنادى أمّه قائلًا "يا أمّاه إنّي ظمئت ظمأ شديدًا حتّى كاد حلقي أن يتشقَّق، فاسقيني شايًا"، وأخذ يسعل بلا انقطاع.

فقالت المرأة: "أين نحن من الشاي في هذا المكان؟ نم هادئًا يابنيَّ".

وكرَّر الطّفل نداءه وبكى بكاء يقطع نياط القلوب في هذه الحقول الواسعة، وهذا اللّيل الساكن.

   وتحرَّك قلب المرأة عطفًا على ولدها، فوضعت حبل الشبكة من يدها على الأرض، ونزلت إلى الزورق وأخذت صحفة، وغرفت بها الماء من الترعة ثمّ أعطته للطفل، فشربه بشهيّة لأنّ الظمأ أصابه منذ زمن، ولكنّه لمّا رفع الصحفة عن فيه، زاد سعاله حتّى لا يسمع إلّا تنفّسياته الخفيفة.

   ولكنّ المرأة تركته وذهبت الى الشاطئ واستمرّت في صيد السمك. فزاد الحزن على قلب النّاطور، إذ إنّه رأى الطفل المريض المسكين قد ظميء حتّى كاد حلقه أن يتشقَّق. ورأى المرأة الصيَّادة تصيد السمك في هذا اللّيل الساكن، القارس البرد لتكسب قطعة من النقود تشتري بها كسرة من الخبز، وما أمكنها أن ترحم ولدها المريض وتحفظه من البرد.

   وخفتت أضواء النجوم شيئًا فشيئًا، وملأ الظلام المخيف ما حول الناطور، ثمّ رأى فجأةً شبحًا يسير بجانب الحقل، فلمّا دقَّق النظر، وجده يلبس جلبابًا قصيرًا وقد تشعَّث شعر رأسه، فعرف أنّه امرأة، ولمّا رأت الزورق وقفت قليلًا، ثمّ استأنفت سيرها إلى شاطئ الترعة، حتّى وصلت إليه ووقفت هناك لا تتحرّك، فتعجَّب النّاطور منها وأخذ يهتمّ بشأنها.

   ثم سمع المرأة تتكلّم بصوت خافت، يقطعه تنّفس حزين يثير القلوب لا يسمعه إلّا هو، إذ إنّه قد تَعَوَّد أن يسمع أصوات اللّيل الخافتة، فإذا بها تقول: "لست جاموسًا ولا خنزيرًا يُباع ويُشترى ولو لم أهرب من البيت لهدّدتني وبِعْتني غدًا ثمّ أخذت ثمني لتلعب به الميسر وتشرب الخمر، وماذا يفيدك ذلك.. ولا يمكنني أن أتخلَّص منك إلّا بقتل نفسي، فإذا متّ ذهبت إلى الدار الأخرى حيث ولدي الميت فأستأنس به"؛ وبكت بكاء شديدًا.

   ولمّا سمع النّاطور كلامها تحيّر وفزع وقال في نفسه: "هذا حادث مؤلم آخر، فإنّها تريد أن تنتحر". وحرّك المروحة في يده يريد أن يوقظ المرأة الصيّادة لينقذها، ولكنّها كالميت أخذت تغطّ في سبات عميق فلم تسمع حركاته أبدًا. فتألّم لذلك ألمًا أشدّ من ألَم الموت. ودعا للمرأة قائلًا: "أشرق أيّها الفجر مبكرًا، واستيقظوا يا أيّها الفلّاحون من نومكم، وطيري أيّتها الطّيور إليهم لتخبريهم خبر تلك المرأة، وهبّي يا ريح الصباح وبدِّدي فكرة الانتحار من قلبها".

   وبعد وقت طويل رفعت المرأة يديها، ثم تقهقرت إلى الخلف قليلًا، وألقت بنفسها في الترعة. ولمّا رأى النّاطور ذلك أُغمي عليه فلم يسمع وقوع جسمها في الماء.

   وعندما أصبح صباح الغد، مرَّ فلّاح بشاطىء التّرعة فرأى جثة المرأة فيها، فذهب إلى قريته يخبر الناس بذلك؛ فجاؤوا إلى شاطئ الترعة، ولمّا مرّوا بالصيّادة النّائمة أيقظتها خطواتهم، فنظرت إلى السمكة في الطّست وكانت قد وضعتها فيه  فوجدتها ميتة، فأخذت الطّست ونزلت إلى الزورق، فرأت وجه ولدها المريض قد ازدادت نحافته ومازال السّعال ينتابه. وجاءت العجوز صاحبة النّاطور إلى الشّاطئ لترى الجثّة، فلمّا مرّت بحقلها أرادت أن تتفقَّد الأرزّ، فوجدت سنابله الّتي لم يتمّ نموِّها قد وقعت على الأرض، وأوراقها قد جفّت، ولمّا رأت أنّ مجهوداتها قد أكلتها الحشرات، وذهبت أدراج الرّياح، لطمت وجهها وضربت صدرها وبكت بكاء مرًّا، وعندما جاء الناس ليسألوها عن سبب بكائها وجدوا النّاطور قد سقط على الأرض بجانب الحقل.

                                 مجلّة الثقافة عدد 344

                                 ترجمة عبدالله ما جي كو

                               للكاتب الصينيّ ياه شاو كين

 

- ترعة: القناة الواسعة للسقي.1

- ذبالة: فتيلة السراج تشعل فيها النار فتضيء. 2