الرتيلاء

   إنّها الحيلة، يساعدها الصبر والشجاعة وسيلة العنكبوت – الرتيلاء - لتهيئة المؤونة اليوميّة.

   ها هي جاثمة داخل شركها الذي نسجته، وأحكمت بمكرها أحابله، تنتظر القنيصة بالمرصاد، حتّى يأتي من يصطدم بنسيجها الخطر، وأقلّ عثرة أو أقل هزّة تنتبه لها الصيّادة الماكرة في الحال، كأنّما هناك التلغراف الكهربائيّ الذي يخبر عن وجود القنيصة مهما كانت صغيرة.

   وإذا كانت القنيصة زهيدة، ذبابة صغيرة أو بعوضة، أو فراشة ضئيلة، فإنّ الرتيلاء لا تهتمّ بهذا الصيد الضعيف، ولا تترك مكانها من أجله لأنّها تعلم أنّه متى تعرقل في نسيجها فلا خلاص له. أمّا لو كان الصيد ذبابة كبيرة، فإنّ الصيّادة تسرع إليها وتشبك حولها الخيوط، ثمّ تربطها عند أعلى صدرها وتجذبها إلى داخل وكرها حيث تمتصّها وقتما يحلو لها وفي راحة تامّة.

   ويتأتّى في بعض الأوقات أن تكون القنيصة من حجم كبير، كالدبّور وخلافه، وإذ ذاك تستلزم المهاجمة شجاعةً ولباقة من صاحبة الشرك التي تعلم أنّ هذه اللّحظة لها خطرها، فلا تتعجّل في الهجوم على هذه الفريسة العظيمة، بل تنتظر حتّى تراها قد علقت في نسيجها، وعندئذٍ يسهل عليها العمل، فتسرع بإحاطة جسم القنيصة بخيوطها التي تحيكها حولها بمهارة وسرعة مدهشة؛ فإذا ما شدّت وثاقها، أمكن لها مداعبتها  بلطف أو بخشونة دون خوف.

   ويزداد حذر الحشرة والصيّادة ويقظتها إذا كانت الفريسة كبيرة الجسم قويّة، وحاولت التملّص في شراسة، وأحدثت جلبة داخل بيت العنكبوت تهدّد بتحطيمه، وربما باقتلاعه من مكانه.

   ففي هذه الحالة تتنازل الرتيلاء عن كبريائها وتستعمل الحكمة، وتساعد الفريسة على الخلاص فتمزّق عنها بعض الخيوط من نسيجها وتتركها تنصرف طليقة حرّة، ثمّ ترثو نسيجها فيما بعد.

   ومن العجب أنّ هذه الرتيلاء الشجاعة الماهرة، تصبح لا حول لها ولا قوّة وهي بعيدة عن نسيجها، وإذا حدث وأصيبت هذه الصائدة بما يقعدها عن صناعة الغزل، فقدت كلّ مزاياها.

   ثمّ هناك شيء آخر ليس أقلّ غرابة ممّا تقدّم، فإنّ هذه العنكبوت وإن كانت كثيرًا ما تهاجم حشرات أكبر منها حجمًا، فهناك بعض الحشرات الصغيرة تجعلها تتقهقر أمامها مرتاعة؛ فالنملة مثلًا تجعل هذه الرتيلاء الخطيرة في حالة رعب واضطراب لمجرّد ظهورها من بعد، فإذا واصلت النملة مسيرها متّجهة إليها، خرجت الرتيلاء من بيتها، ولا تعود إليه إلّا بعد أن تبتعد عدوّتها المخيفة لأنّها تعلم أنّ شعوب النمل لها طلائع ترسلها في كلّ مكان لتأتيها بالأخبار؛ فإذا علم جيش النمل الكثير العدد، أنّ نملة وقعت في شرك العنكبوت، هاجمها وقضى عليها في قسوة. والرتيلاء كالقائد المحترس الحكيم الذي لا يرضى أن يقاتل من يعلوه قوّة.

                                  مجلّة الثقافة عدد 409