أنا....

   أظنّ أنّ ثلاثة أرباع مصائب الدنيا ناشئة من هذا الضمير... أنا.... ضمير المتكلّم، يكذب ويدّعي الصدق، ويبخل ويدّعي الكرم، ويجبن ويدّعي الشجاعة، ثمّ لا تراه يدخل في أمر من أمور الدنيا إلّا أظهر أنّه يستولي عليه وينفرد به. فإذا دخل الوطنيّة أظهر أنّه أوّل المضحّين، وإذا دخل الأدب أظهر أنّه أوّل المبرزين، وإذا دخل الحبّ أظهر أنّه أرقّ العاشقين؛ ثمّ لا تراه يسمح لأخيه ضمير المخاطب (أنت) بمتنفّس يتنفّس منه، فإذا شاء هذا الضمير أن يتكلّم قطع عليه الكلام، وإذا شاء أن يشكو، سدّ عليه سبيل الشكوى.      

   أمّا أخوه الآخر، ضمير الغائب (هو)، فإنّه لا يغفل عنه طرفة عين، فتراه يأكل من لحمه، ويحطّ من قدره، ويصغّر من شأنه؛ والخلاصة أنّ هذا الضمير (أنا) رأس المصائب، فلو كنت عضوًا في مجمع فؤاد الأوّل لشغلت المجمع طوال الشتاء بالسعي في حذفه، فإذا حذف، فإنّي أعتقد أنّ البشرية تسلم من الكثير من شرّه، وخاصّة إذا اندمج في أخويه (أنت وهو)، لأنّ هذا الاندماج يؤدّي إلى التجرّد والانسلاخ، والبشريّة في أشدّ الحاجة إلى هذا التجرّد وإلى هذا الانسلاخ، فقد تعبت من هذا الضمير (أنا) وتعبت من مشتقّه (الأنانيّة) إذا جاز الاشتقاق من الضمائر. ولو بحثنا عن أصل هذه الحرب التي نعاني جهنّمها من خمس سنين وعن الحروب التي قبلها، لوجدنا أنّ أكثرها سببه هذا الضمير (أنا)، فكلّ أمّة تقول – أنا، أنا... أنا أفضل الأجناس فأريد أن أخضع الدنيا لسلطاني، وأنا أرحم الأمم فأريد أن أدخل الدنيا في رحمتي، وأنا أكثر الشعوب إنتاجًا فأريد أن أصرّف بضاعتي، وأنا... وأنا.

   وقد حضرت ذات يوم مجلسًا، فأخذ أهل المجلس يتحدّثون عن أنفسهم، والله كان فيهم البخيل والأنانيّ والخائن؛ فالبخيل كان يتحدّث عن كرمه، والأنانيّ عن تجرّده، والخائن عن إخلاصه، فغاظتني هذه الأحاديث، فقلت لجماعة المجلس: أمّا أنا فأريد أن أحدّثكم عن عيوبي، والله إنّي أبخل البخلاء، فلو كان جيراني يسهرون في ظلمة من الليل ولا سراج عندهم ورأيت في جدار بيتي ثقبًا يدخل منه ضياء سراجي إليهم، لسددت هذا الثقب حتّى لا ينتفعوا به. ووالله أنا أشدّ الناس أنانيّة، والله أنا أخون الناس... فلمّا سمع أهل المجلس هذه الصفات أدركوا أنّه يعرّض بهم فخجلوا وسكتوا.

   لقد كان وعظ هذا الصديق بليغًا، فإذا لم ننجح في حذف ضمير المتكلّم (أنا) من لغة الضمائر، فلا أقلّ من أن نجعل هذا الضمير صادقًا في أحاديثه. فلعلّ كثيرًا من مصائب الدنيا تخفّ على أهلها من هذا الصدق. 

                                      مجلّة الثقافة عدد 331