حبّة واحدة
تاريخ الحبّة
كانت في هذا العالم حبّة واحدة، حجمها كحجم الخوخة وقشرها الأخضر يجذب القلوب ويحبّها كلّ إنسان إذا رآها، وقيل إنّها إذا غرست في الأرض طلع منها بعد أيّام برعم أخضر كالحجر الكريم الأخضر. وإذا كبرت وتفتّحت زهورها فلا يمكن للوردة والبنفسج والأقحوان أن تنافسها في الجمال، ورائحتها أطيب من روائح الفلّ والزنبق والياسمين، ولكن لم يكن أحد من الناس يغرسها ولم ير جمال زهورها ولم يشمّ رائحتها.
وسمع ملك خبر هذه الحبّة، فعجب لها وأخذ يضحك من حديثها ضحكًا شديدًا حتّى اتّسع فمه فصار كالغار العميق وبدت لحيته الكثيفة البيضاء كغابة تحيط بذلك الغار، ثمّ عاد فأطبق فمه بشدّة وقال:
- إنّ كلّ أنواع الزهور في هذه الدنيا موجودة في حديقتي، ففيها زهور بيضاء من منطقة البرد الشماليّة، كنت أرسلت رسولًا جاء بها، وفيها زهرات النيلوفر الكبيرة من منطقة الحرّ الجنوبيّة أهداها إليّ ملك هناك، ولكنّ هذه الزهور زهور عاديّة كثيرة في العالم يمكن لغيري أن يقتنيها، فلا فخر بها ولا عجب، أمّا إذا وجدت هذه الحبّة الوحيدة وغرستها في حديقتي حتّى تتفتّح زهورها الجميلة التي لا مثيل لها في هذه الدنيا، ظهرت بها عزّتي وجبروتي وقدرتي أمام الناس.
ثمّ أمر الملك أن يؤتى بها، فغرسها في أصيص1 من الحجر الكريم الأبيض، ووضع فيه ترابًا دقيقًا ليّنًا غربله مرّات كثيرة، وسقاها ماء من إناء من الذهب صافيًا نقيًّا، وفي كلّ صباح كان الملك ينقله بنفسه من الحجرة الدفيئة إلى فناء القصر، وفي المساء ينقله منه إلى الحجرة، وإذا صار الجوّ باردًا أوقد النار ليدفئها.
واهتمّ الملك بها اهتمامًا كبيرًا، وشغل بها في يقظته ومنامه، وانتظر طلوع برعمها وتفتّح زهورها.
ومرّ الزمان سريعًا، ومضى على الحبّة التي غرسها الملك في الأصيص سنتان، فلمّا جاء الربيع وظهرت براعم النباتات، وقف الملك أمام الأصيص يدعو الحبّة قائلًا:
- جاء الربيع وظهرت براعم النباتات، فتعالي معها يا حبّتي الجميلة واطلعي براعمك.
ولكنّ براعم الحبّة لم تطلع فغضب الملك وقال:
- هذه حبّة ميّتة قبيحة قذرة، لا فائدة من بقائها عندي، فأخرجها من الأصيص ورماها في الحوض. فسالت الحبّة مع ماء حوض القصر إلى ترعة، ثمّ وقعت في شبكة صيّاد، فأخذها وذهب بها إلى السوق ليبيعها.
فاشتراها غنيّ كبير من الصيّاد وغرسها في أصيص من الذهب الأبيض وأجّر أربعة عمّال من البساتين ليخدموها، وأعطاهم أجرًا كبيرًا، كما أعطاهم علاوة لأزواجهم وأولادهم، فبذل كلّ واحد منهم جهوده لخدمة الحبّة وتناوبوا على حفظها وتعهّدها ليلًا ونهارًا، وقد عرف هؤلاء العمّال كثيرًا قواعد تربية الزهور، فخدموها بكلّ ما عرفوه، وغذّوها بأحسن السماد، وسقوها بأصفى الماء.
فقال الغنيّ في نفسه: "إنّي أربّي هذه الحبّة بكلّ جهدي، فإذا تفتّحت زهورها التي لا توجد في هذه الدنيا إلّا عندي، سأعمل وليمة كبرى وأدعو إليها الأغنياء أمثالي في البلد ليروا زهورها التي لا توجد في هذه الدنيا إلّا عندي، وليعجبوا بي ويعرفوا أنّني أغناهم وأعزّهم، وأخذ ينظر إلى الأصيص في كلّ دقيقة وكلّ برهة.
وانصرم الزمان سريعًا، ومضى على الحبّة بعد أن غرسها الغنيّ في الأصيص سنتان، ولكنّ برعم الحبّة لم يطلع، فغضب الغنيّ وقال:
- حبّة ميّتة قبيحة قذرة لا فائدة من بقائها عندي. فأخرجها من الأصيص ورماها إلى خارج الحديقة.
وخرجت الحبّة من حديقة الغنيّ، فوقعت أمام دكّان تاجر، فالتقطها وسُرّ بها سرورًا كبيرًا وقال:
- هذه حبّة جميلة عجيبة وقعت أمام دكّاني، وسأكون بها غنيًّا.
فغرسها في الأرض بجوار دكّانه، وكلّما فتحه أو أغلقه ذهب إليها ليرى طلوع برعمها وتفتّح زهورها. ومرّ من الزمن أكثر من سنة، ولكن لم يطلع البرعم كالحجر الكريم الأخضر، فثار التاجر وقال:
- إنّي أحمق، ولقد ظننت أنّها حبّة جميلة عجيبة، ولكنّها حبّة ميتة قبيحة قذرة، فيجب عليّ الآن أن أهتم بتجارتي وأتركها. فأخرجها من الأرض ورماها في الشارع.
فجاء كنّاس ولمّها مع الزبالة ثمّ رماها في صندوق القمامة بجوار معسكر، فأخذها جنديّ وفرح بها فرحًا شديدًا وقال:
- وجدت حبّة جميلة عجيبة وسأكون بها شابطًا2. فغرسها في الأرض بجوار المعسكر. وجلس على الأرض ينتظر طلوع برعمها وتفتّح زهورها هناك.
وبعد سنة لم يطلع البرعم، فثار الجنديّ وقال:
- إنّي مجنون لقد ظننت أنّها حبّة جميلة عجيبة، ولكنّها حبّة ميتة قبيحة قذرة، فأخرجها من الأرض ورماها بكلّ قوّته إلى فضاء بعيد. وطارت الحبّة في الفضاء حتّى وقعت على حقل من الحقول الخضراء السندسيّة.
وكان في الحقل فلّاح شاب، ولمّا رأى هذه الحبّة تقع على حقله قال:
- يا لها من حبّة جميلة، فحفر بفأسه حفرة في الأرض وغرسها فيها.
استمرّ الفلّاح في فلاحة حقله، فصفّاه من الحشائش وسقاه بالماء النقيّ ولم يختصّ الحبّة بالعمل. ولكن بعد أيّام ظهر في الحقل خطّ نباتيّ أخضر، وبعد أيّام طلعت ساق النبات الخضراء كالحجر الكريم الأخضر، وبعد أيّام تفتّحت زهرة جميلة حمراء يعجز عنها الوصف، فانتشرت منها رائحة طيّبة لطيفة في الهواء، كلّما مرّ إنسان بجوارها علقت بجسمه ولا يمكن أن يزيلها أبدًا.
وحينما رأى الفلّاح أنّ الزهرة التي كانت نتيجة جهوده لا تزال مفتّحة جميلة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة فرح وسرور؛ وجاء أهل القرية ليروا الزهرة الفريدة ثمّ رجعوا وقد علت على فم كلّ واحد بسمة مشرقة وانبعثت من أجسامهم رائحة عبقة.
مجلّة الثقافة عدد 409
- أصيص: وعاء كالجرّة له عروتان.1
- شابطًا: متعلّقًا. 2