البعوض

   ليس لكلّ الحشرات قدرةٌ على نقل الأمراض المعدية ولا كلّها في ذلك سواءٌ. فالذباب مثلًا ينقل العدوى في أمراض العينين، وأكثر الأمراض الجلديّة ولكنّه لا يقدر على نقل الحمّيات، لأنّ مقدَّم فمه مخلوق على هيئة تمكّنه من اللّحس والولغ1، ولكن ليس فيه ما يمكّنه من وخز الجسم وامتصاص الدم ونقل ما يكون فيه من الجراثيم المرضيّة. وبخلاف ذلك البعوض فإنّ له في خرطومه آلة تشبه المنشار يتّصل بها شفتان تنضمّان عليها، فإذا وقع على الجسم ضرب بذلك المنشار فيخرق الجلد ويمتصّ ما يخرج من الدم مفرزًا سيّالًا يمنع جمود الدم لئلّا يسدّ الجرح ويمنعه من الامتصاص، ومتى أروى غليله يطير من جسم إلى جسم آخر فيفرز ما قد امتصّه من الجراثيم المرضيّة المختلطة بالدم.

   ويكثر البعوض في الأراضي التي تكثر فيها المياه الراكدة، لأنّه يبيض في تلك المياه، والإناث منه هي التي تنتشر في البيوت ومجامع الناس؛ وأمّا الذكور فإنّها تقصد البراري الكثيرة الأزهار أو تحوم حول الماء تنتظر إناثها. وتبيض الأنثى على وجه الماء ويكون الذي تضعه من البيض نحو ثلاثمئة بيضةٍ، تصفّها على شكل قارب لتقوى على مقاومة الريح ولا تغرق عند تموّج الماء. وبعد أن يأتي عليها أربعة أيّام أو أكثر، تبعًا لحرارة الجوّ، يخرج من هذا البيض الدود المعروف فيلبث على وجه الماء ليتنفّس الهواء من أنبوبة على طرف مؤخره. وبعد مدّة تتحوّل الدودة منه إلى زيز فيكبر رأسها حتّى يأخذ معظم الجسم، وينتقل تنفّسها إلى أنبوبتين تتولّدان في مؤخّر الرأس. ويكون هذا الزيز مغلّفًا بغشاء شفاف فيسبح في الماء من دون أن يتناول غذاء، ويبقى على هذه الحالة من خمسة إلى خمسة عشر يومًا يتحوّل في خلالها إلى بعوضة فتختار ظهر يوم شمسه محرقة ونسيمه لطيف، فتُخرِج هذه البعوضة رأسها من الغشاء الملتفّة به، ثمّ تخرج صدرها وقائمتيها المقدّمتين إلى خارج الماء وتعتمد برجليها على سطح الماء وهي معرِّضة جناحيها لحرارة الشمس حتّى إذا جفّ جناحاها وأمكنها الطيران تُخرج بقيّة جسمها من الغشاء، خروج راكب البحر من السفينة، وتطير في الجوّ.

   ولولا ما يصيب البعوض في تلك الحال من الآفات الجوّية وقوّة الريح التي تغرّق الملايين منه قبل خروجه من الماء لكان يحجب عنّا أشعّة الشمس؛ ولامتلأت البيوت من هذه الحشرات المؤذية. وأفضل الطرق لمنع تكاثر البعوض ردم المستنقعات وتغيير مياه الحياض2 والبرك كلّ خمسة عشر يومًا على الأقل. وأمّا في داخل المنازل، فإن كان هناك فوّهات مفتوحة دائمًا تؤدّي إلى مجامع أقذار ورطوبات ممّا يكون منبعًا مستمرًّا للبعوض، فأفضل طريقة لها إن لم يكن سدّها أن يطرح في مجاري تلك الفوهات كميّات كثيرة من محلول السليمانيّ أو المازوت، ثمّ إذا فرّغ ما فيها، تطلى الجدران كذلك بالمحلول نفسه، فإنّ البعوض على الغالب يذهب ولا يعود.

                                 الضياء ص.619 السنة الأولى   

 

1-  الولغ: شرب مستعملًا لسانه.

2-  الحياض: جمع حوض، مجتمع المياه.