ثلجيّة
الملكة الأم
كان الزّمن شتاءً، فكانت رقع الثّلج تتساقط من السّماء كالقطن النّاعم وزَغَبِ الطّائر. في ذلك الحين، كانت ملكةٌ من الملكات تخيط ثوبًا جميلًا بإبرتها وأصابعها البارعة، وهي جالسةٌ بجنب شبّاكٍ تكتنفه أشجار الأبنوس.
وبينما الملكة ترقب الجوّ المملوء بخيوط الثّلج، ويداها تعملان دون انقطاع أو ملل، وخَزَت الإبرة إصبعها الطّريئة، فسال منها ثلاث نقط دمٍ قانٍ اصطبغ بها الثّلج النّاصع.
ولمّا شاهدت بقعًا حمراء في وسط البياض المالىء الأرض سُحِرَت بجمالها الفاتن، وقالت في نفسها كأنّها في حلمٍ:
يا ليت لي ولدًا في بياض الثّلج وحُمرة الدّم وسواد شجر الأبنوس المحيط بهذا المنظر!
تحقّق الأمل
لم يمضِ زمنٌ طويلٌ حتّى تحقّق أمل الملكة فرُزِقت ابنة بيضاء كالثلج، حمراء كالدّم القاني،وذات شعرٍ أسود كالأُبنوس، وسُمّيَت تلك الابنة ثلجيّة؛ ولكن لسوء الحظّ لم تكد الابنة تنظر نور هذا العالم حتّى فارقت أمّها الحياة.
الملكة الخالة
بعد مُضيِّ سنةٍ على الوفاة، تزوّج الملك ثانيةً، وكانت زوجه الجديدة جميلة الصّورة، غير أنّها غِطريسةٌ متكبّرةٌ، فلا تُطيق جمال أيّ شخصٍ كان يفوقها جمالًا. وكانت تملك مرآةً سحريّةً تسألها كلّما تراءى لها وجهها من خلالها قائلةً لها:
- أيّتها المرآة الصّغيرة، أيّتها المرآة الملتصقة بهذا الحائط! من أجمل نساء هذه البلاد قاطبةً؟
فأجابتها المرآة إذ سألتها يومًا:
- يا سيّدتي الملكة: أنتِ أجمَلهنّ! فسُرَّت الملكة وقرَّت عينًا، لعِلمها وتيقّنها أنّ المِرآة قالت لها الحقيقة.
جمال الأميرة
أخذت ثلجيّة الصّغيرة تنمو وتكبر رويدًا رويدًا حتّى أصبحت أجمل نساء البلاد وأفتنهنّ؛ فقد كانت، وهي في سنّ السّابعة، جميلةً كنور النّهار وأجمل من الملكة الخالة نفسها.
وفي ذات يومٍ اقتربت الأميرة من مرآتها السّحريّة وسألتها مرّةً ثانيةً:
- أيّتها المِرآة الصّغيرة، أيّتها المرآة المستقرّة في هذا الحيط: اذكري لي اسم أجمل امرأةٍ في هذه البلاد، فردّت عليها المِرآة قائلة:
- أنتِ ههنا أجمل امرأةٍ يا سيّدتي الملكة، ولكنّ الأميرة " ثلجيّة " أجمل منك بألف مرّة!
حسد الملكة
فلمّا طرق كلام المِرآة أُذُنَي الملكة استولى عليها الذّعر واضطربت واخضرّ وجهها، بفعل الحسد القاتل؛ وصارت، منذ ذلك الحين، كلّما رأت "ثلجيّة" أو تراءَت لها، رقص قلبها في صدرها وقفز قفزة الهلع، لكرهها الشّديد لابنة زوجها الجميلة الفاتنة. وهكذا أخذت الغيرة والكبرياء، كالأعشاب الضّارة، تنموان وتتجسّمان يومًا بعد يومٍ في نفس الملكة حتّى حُرِمَتْ لذّة الرّاحة خلال النّهار واللّيل.
مَكيدة الملكة الأولى
عندئذٍ دعت الملكة الشّرّيرة قانصًا من قانصي القصر وقالت له:
- اذهب بهذه الابنة إلى الغابات! فإنّي لا أريد أن تُبصرها عيناي بعد اليوم! فتقتلها هناك وتأتيني برئَتيها وكبِدِها لأتثبّت من موتها!
عمل الصّيّاد بأمر ملكته فاقتاد الفتاة الصّغيرة إلى الغابات؛ ولكنّ القانص، عندما استلّ خنجره من غِمدِه ليطعن به قلب الابنة البريئة، أخذت تبكي ذارفةً الدّمع السّخين وقالت:
- أيّها القانص الصّالح! اتركني على قيد الحياة! وأَعدك وعدًا صادقًا أنّني أهرب إلى الأحراج النّائية، فأتوارى فيها بحيث لا يراني إنسيٌّ، ولن أعود إليكم أبدًا!
التفت الصّيّاد إليها فرآَها مُفرطَةً في الجمال فرقّ قلبه وأشفق عليها ثمّ قال:
- اذهبي أيّتها الفتاة المسكينة الطّاهرة إلى حيث تريدين! إنّ الحيوانات الضّارية ستفترسك عمّا قريب! هكذا افتكر القانص في نفسه.
ثلجيّة في الغابات
وفارقته الابنة التّاعسة، مطاطِئَة الرّأس، واتّجهت صوب الغابات الكثيفة واختفت عن ناظريه، فاطمأنّ باله وشَعَر أنّ نفسَه تخلّصت من حِملٍ ثقيلٍ كان يضغط عليها من جرّاء تفكيره أنّه مضطرٌّ لقتل تلك الابنة البريئة؛ وحانت منه التفاتةٌ فأبصر خنزيرًا برّيًّا مُقبلًا إليه فتناول قوسه ونشّابه فرماه بالنشّاب وصرعه وعالجه من ساعته حتّى شقَّهُ فأخرج كبدَهُ ورِئَتيه وعاد بها إلى القصر وقدَّمها للملكة القاسية، تأكيدًا لها أنّ ثلجيّة زالت من عالم الأحياء. وللحال أمَرَت الملكة الظّالمة طاهيها ليملّحَها ويطبخها! وما فعل ذلك حتّى جلست إلى المائدة وأكلتها موقِنَةً أنّها صادرة عن جسم الابنة الجميلة.
إلّا أنّ الأميرة البائسة كانت لا تزال حيّة في الغابات الموحشة، تجتازها وحدها على قدميها النّاعمتين، مستسلمةً لقضاء اللّه، وأخذت تنظر إلى أوراق الأشجار لتُسلّي بها نفسها، دون أن تدري بأيّة وسيلةٍ ستنجو من ذلك المأزق الّذي وقعت فيه، وشرعت تعدو حافيةً على الحجارة المسنّنة كالمناشير وبين الأشواك الحادّة المؤلمة. وكانت الضّواري تمرّ بقربها ولا تنالها بأدنى أذًى. واستمرّت في سيرها السّريع ما سمحت لها قدَمَاها وحتّى هجم جيش الظّلام المخيف، عندئذٍ رأت بيتًا صغيرًا فدخلته لتستريح فيه.
في البيت المنفرد
وكان في هذا المسكن كلّ شيءٍ صغيرًا، ولكن يعجز الوصف عن أناقته ونظافته العجيبتين؛ فكان فيه خِوانٌ مغطّى بغطاءٍ أبيض عليه سبعة صحون صغيرة وبجنب كلّ صحنٍ شوكةٌ وسكّينٌ وقدَحٌ؛ وقرب الحيط وُضِعَت سبعة أسِرّةٍ صغيرةٍ الواحد تِلو الآخر؛ وعلى كلّ سريرٍ فُرِش شرشفٌ أبيض ناصعٌ كالثّلج. وكانت ثلجيّة خائرة القوى من الجوع، فدنت من تلك المائدة المرتّبة ترتيبًا أنيقًا وأكلت قليلًا من الخضَار والخبز من كلّ صحنٍ، واحتست بعض نقَط الخمر من كأسٍ، لأنّها فضّلت هذه الطّريقة على أن تأكل حصّة شخصٍ بكاملها.
ثمّ أحسّت ثلجيّة بالتّعب الشّديد يستولي عليها فأرادت أن تنام في أحد الأسرّة ولكن لم يلائمها واحدٌ منها، إذ كان الواحد طويلًا جدًّا والآخر صغيرًا جدًّا. وأخيرًا وجدت السّرير السّابع موافقًا لقامتها فتمدّدت فيه ونامت، بعد أن سَجدت وصلّت للّه تعالى.
الأقزام السّبعة
ولمّا زال النّهار وخيّم اللّيل بظلمته أوى أصحاب البيت إلى بيتهم، وكانوا سبعةً من الأقزام، أتَوا من مكانٍ غير بعيدٍ، حيث كانوا ينكشون الجبل ويحفرونه لينقّبوا فيه عن المعادن، فأنار كلٌّ منهم شمعةً حتّى نوّرت سماء الغرفة، فأدركوا ساعتئذٍ أنّ أحد النّاس دخل بيتهم في غيابهم لأنّ الأشياء لم تكن جميعها في مواضعها الّتي وضعوها فيها عند انصرافهم إلى الشّغل في الصّباح، فقال الأوّل:
- من جلس على كرسيّ؟
وقال الثاني: من تناول الأكل من صحني؟
وقال الثّالث: من أكل كِسْرةً من رغيفي؟
وقال الرّابع: من أكل جزءًا من خُضَري؟
وقال الخامس: من استعمل شوكتي؟
وقال السّادس: ومن تجرّأ على الشّرب من كأسي؟
وأدار الأوّل نظره والتفت إلى ما حوله فشاهد آثار قدمٍ صغيرةٍ على سريره فسأل رفاقه:
- من صعد إلى سريري؟ فهرع إليه رفاقه وصرخ كلّ واحدٍ منهم قائلًا:
- إنّ أحد النّاس قد نام في سريري!
أمّا القزم السّابع فلمّا أبصر سريره رأى فيه الفتاة التّعبانة ثلجيّة نائمةً، فنادى إخوانه، فأسرعوا إليه وهتفوا هتاف التّعجّب والدّهشة ثمّ ذهبوا وأتوا بشموعهم حتّى يتبيّنوا وجه الفتاة الصّغيرة. ولمّا حدّقوا بها جيّدًا قالوا:
- يا لها من ابنة جميلةٍ!
ومن شدّة فرحهم وإعجابهم بها لم يوقظوها بل خلّوها تنام في السّريرمطمئنّةً. ونام كلٌّ في سريره الخاصّ به إلّا القزم السّابع؛ فإنّه نام ساعةً واحدةً في فراش كلٍّ من زملائه، إلى أن انتهى اللّيل. ولمّا استيقظت ثلجيّة في الصّباح خافت واضطربت لرؤيتها الأقزام السّبعة، ولكنّ هؤلاء أظهروا لها كلّ عطفٍ ومحبّةٍ عندما وقع بصرها عليهم، وقالوا لها:
- ما اسمك أيّتها الفتاة؟
فأجابتهم: - اسمي ثلجيّة.
فقالوا لها ثانيةً: - وكيف استطعتِ الوصول إلينا؟
ثلجيّة ربّة البيت
فقصّت عليهم قصّتها مع خالتها الظّالمة وكيف أنّها أمرت أحد الصّيادين بقتلها فخالف الأمر وعفا عنها شفقةً وتركها حيّةً، فأخذت تطوف الغابات من مكانٍ إلى آخر حتّى صادفت بيت الأقزام.
فأشفقوا عليها وسألوها قائلين:
أتريدين أن تُعني بإدارة بيتنا؟ فتحضّري لنا طعامنا وترتّبي أسرّتنا وتُغسلي ثيابنا وتَخيطي وتَحيكي؟ إذا رَضِيتِ أن تجعلي كلّ شيءٍ مرتّبًا ونظيفًا، فبوسعك أن تظلّي حينئذٍ عندنا، حيث يتوفّر لديك أي شيء ترغبين، فأجابت الابنة: أقبل عن رضًى ما تعرضون، وأنا طيّبة الخاطر.
وعاشت ثلجيّة معهم، مَعنِيّةً بإدارة بيتهم الصّغير خير عنايةٍ وبدقّةٍ فائقةٍ. وعند الصّباح المبكِر كان الأقزام يذهبون إلى الجبال ليأتوا بالذّهب وسائر المعادن. وكانت الفتاة في أثناء غيبتهم تهتمّ بأكلهم ليكون مهيّئًا عند أوْبَتهم في المساء. وكانت في خلال النّهار تبقى وحدها دون أحدٍ يؤانسها؛ وكان الأقزام المخلصون يحذّرونها دومًا بقولهم:
- "احذَري الملكة خالتك الّتي ستعلم عمّا قريب بوجودك حيّةً بيننا، ولا تدعي أحدًا يدخل إلى هنا".
أمّا الملكة، فإنّها لمّا أكلت الكبد والرّئتين الّتي أتاها بها القانص، ما داخَلَ نفسها ريبةٌ أنّ ثلجيّة قد لا تزال في قيد الحياة، بل تأكّدت من موتها وأيقنت أنّها أجمل امرأةٍ على الأرض. وبالرّغم من تأكيدها ذلك، اقتربت من مرآتها وسألتها يومًا:
- أيّتها المرآة الصّغيرة! أيّتها المرآة الملتصقة بالحائط! مَن أجمل امرأةٍ في طول البلاد وعرضها الآن؟ فأجابتها المرآة: يا سيّدتي الملكة، أنت أجمل امرأةٍ ههنا! ولكنّ ثلجيّة الموجودة ما وراء الجبال هنالك، والقاطنة عند الأقزام السّبعة، تفوقك ألف مرّةٍ بجمالها.
انخداع الأميرة
رُعِبَت الملكة من قول المرآة، وكانت تعرف أنّ هذه لا تقول أبدًا سوى الصِّدق، وأدركت تمامًا أنّ القانص خدعها وأنّ ثلجيّة الجميلة لا تزال عائشةً. ففكّرت مليًّا في حيلةٍ لإهلاكها وقتلها، لأنّ الحسد كان يتأكّل قلبها الخبيث كما يتأكّل الصّدأ الحديد، ويحرمها طعم الرّاحة، طالما يوجد في البلاد من هي أجمل منها. وأخيرًا اهتدت إلى تلك الحيلة:
فقد غيّرت وجهها بالألوان ولبست لباس عجوزٍ تاجرةٍ متنقّلة بحيث لم يعد أحدٌ يعرفها، وأخذت تنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ حتّى بلغت الجبال السّبعة الّتي يقطنها الأقزام، ووصلت إلى البيت الّذي تعيش فيه الابنة الجميلة فقرعت الباب مناديةً:
البضائع الجميلة للبيع!
فالتفتت ثلجيّة من خلال النّافذة وقالت:
- أيّتها الإمرأة الطّيّبة القلب! ما معك للبيع؟
فأجابتها الملكة المتخفّية: أشياء جيّدة وجميلةٌ، تكَكٌ من جميع الأنواع. وأرتها واحدة منها مصنوعة من حريرٍ متنوّع الألوان.
فقالت الابنة الصّغيرة السّاذجة في نفسها "أقدر أن أسمح لهذه البائعة الطّيّبة بالدّخول".
وفتحت متراس الباب واشترت تكّةً جميلةً وما أن جرّبت طريقة استعمالها حتّى صاحت العجوز في وجهها:
- ما أسوأ ما رَبَطْت نفسك يا بنيّتي! تعالي سأوثقك جيّدًا.
الإغماء
اقتربت منها ثلجيّة دون غضب أو خوفٍ، وسمحت لها أن تربط صدْرَتَها. غير أنّ الملكة الغدّارة شدّتها شدًّا قويًّا بفظاظةٍ حتّى قطعت عنها النّفس واعتقدت أنّها ماتت اختناقًا ثمّ قالت: الآن، ما عدتِ أجملَ النّاس! وتركتها وخرجت مسرعةً.
بعد بضع ساعاتٍ، وقد جاء المساء، دخل الأقزام إلى بيتهم كالعادة؛ وكم كان خوفهم شديدًا عندما أبصروا ثلجيّة الغالية مُلقاةً على الأرض لا تُبدي حراكًا كأنّها من الأموات، فرفعوها وقطعوا تِكَّتها المشدودة شدًّا وثيقًا على صدرها، فأخذت ساعتئذٍ تتنفّس تنفّسًا خفيفًا وعاد إليها وعيها. ولمّا عرف الأقزام ما جرى قالوا لها:
- إنّ البيّاعة العجوز لم تكن سوى الملكة الشّرّيرة. احذريها ولا تسمحي لأحد بالدّخول إلى البيت أثناء غيابنا بعد اليوم.
المكيدة الثّانية أو المشط المسموم
ولمّا عادت المرأة المشؤومة إلى القصر دَنَت من مرآتها وخاطبتها قائلةً:
- أيّتها المرآة الصّغيرة، أيّتها المرآة القائمة في الحائط! مَن أجمل نساء البلاد قاطبةً؟
فأجابتها المرآة كما أجابتها من قبل:
- يا سيّدتي الملكة، أنتِ أجمل امرأةٍ ههنا، لكنّ ثلجيّة الموجودة ما وراء الجبال عند الأقزام السّبعة، تفوقك ألف مرّةٍ بجمالها.
وعندما سمعت هذا القول اضطرب قلبها وتزاحم إليه الدّم من الأطراف لخوفها الشّديد الّذي سبّبه معرفتها أنّ ابنة زوجها لا تزال حيّةً! وأخذت تفتكِر ثمّ قالت في نفسها:
الآن سأخترع حيلةً تقودك إلى الهلاك! وكانت الملكة تعرف علم السّحر فلجأت إلى هذا الفنّ وسمّمت مشطًا ثمّ تنكّرت، مُغَيّرةً زيّها حتّى صار من يراها يخالها عجوزًا أخرى غير العجوز الأولى.
وخرجت من قصرها وسارت حتّى بلغت الجبال السّبعة فقرعت باب البيت الصّغير وهي تنادي:
"بضائع جيّدة للبيع"!
فحانت من ثلجيّة التفاتةٌ إلى الخارج ولمّا أبصرتها قالت لها:
- سيري في طريقك ولا تتوقّفي لأنّي لن أسمح لأحد بالدّخول إلى هذا البيت!
فجاوبتها الإمرأة العجوز:
- إذا كنتِ لا تسمحين لي بالدّخول، فلا أقلّ من أن تري بعينيك ما معي من أشياء جميلةٍ! وأخرَجَت المشط المسموم ووضعته تحت عينيها فأعجبها كثيرًا وفتنها وأغراها، فاستضعفت وفتحت الباب؛ ولمّا اتّفقتا على الثّمن قالت لها البيّاعة الماكرة:
- الآن سأُمشّطك كما يجب فأجعلك جميلة الهندام". رَضيَت ثلجيّة بذلك دون أن يخطر ببالها أيّ خاطرٍ فيه سوء ظنٍّ. ولكن ما كاد المشط يلامس شعرها النّاعم حتّى أحسّت بمفعول السّمِّ ووقعت على الأرض مغميًّا عليها.
عند ذاك هتفت الإمرأة الشّرّيرة قائلةً:
- "يا أعجوبة الجمال، لقد قُضي عليك الآن"!
وتركتها مُلقاةً على الأرض وانصرفت.
عودة الأقزام
ولحسن الحظّ، كان النّهار قد قرُب من نهايته وجاء اللّيل، فلجأ الأقزام السّبعة إلى بيتهم. ولمّا رأوا ثلجيّة طريحةً على الأرض لا تُبدي حراكًا ارتابوا بحالتها وأوجَسوا خيفةً من أن تكون يد الموت قد طالتها، وداروا حولها فاحصين، فرَأَوا المشط المشؤوم. وما كادوا يحرّكون الابنة ويرفعونها قليلًا حتّى عادت إلى وعيها فأوقفتهم على ما حدث، فأوصوها مرّةً أخرى أن تكون حذرةً فلا تفتح الباب لأحدٍ.
التّفاحة المسمومة
في هذه الأثناء انتصبت الملكة أمام مرآتها حسب عادتها وسألتها:
"أيّتها المرآة الصّغيرة! أيّتها المرآة القائمة في هذا الحائط! مَن أجمل نساء هذه البلاد كلّها"؟
فأجابتها المرآة أيضًا مرّةً أخرى:
- "يا سيّدتي الملكة، أنتِ أجمل امرأةٍ ههنا، لكنّ ثلجيّة الموجودة ما وراء الجبال عند الأقزام السّبعة، تفوقك ألف مرّةٍ جمالًا".
وعند سماع هذه الكلمات، ارتعدت أوصالها من فرط الغيظ وصرخت قائلةً:
- "إنّ ثلجيّة ستموت! ولو كان موتها سيكلّفني حياتي"!
وما قالت هذا القول، حتّى ولجت إلى غرفةٍ سرّيّةٍ منعزلةٍ، حيث أحضرت تفّاحةً وطلتها بسمٍّ قاتلٍ. وكان للثّمرة منظرٌ خارجيٌّ بهيجٌ، وبقعٌ بيضاء وحمراء يشتهيها كلّ مَن رآها لجمالها. ولكنّها مميتةٌ كلّ من أكل منها قطعةً. ولمّا حضّرت التّفاحة صبغت الملكة وجهها بالمساحيق وتزيّت بزيِّ قرويّةٍ وغادرت قصرها وأتت إلى ما وراء الجبال حيث يقيم الأقزام السّبعة وقرعت الباب فأطلّت ثلجيّة بطلعتها البهيّة من خلف النّافذة وقالت:
- "عليّ ألّا أفتح الباب لأيٍّ كان!
هذا ما أوصاني به الأقزام"!
فأجابتها القرويّة المزيّفة:
- "هذا لا يعنيني! أريد أن أتخلّص من تفّاحي! خُذي، سأناولك واحدةً منه"! فقالت الابنة: "لا! لن أقبل شيئًا"!
فسألتها العجوز:
- "أتخافين أن تتسمّمي"!؟
- "انظري! سأقسم هذه التّفاحة قسمين، فتأكلين أنت النّصف الأحمر وآكل الأبيض منها".
المكيدة الثّالثة
ولسوء الحظّ كانت الملكة قد وضعت السّمّ في قسم التّفاحة الأحمر فقط بطريقةٍ ماهرةٍ. فنظرت ثلجيّة إلى التّفّاحة الجميلة نظرة الرّاغبة في أكلها، ولمّا أبصرت القرويّة البائعة تقضم قسمها الآخر ازدادت رغبةً في أكل حصّتها دون أن تستطيع مقاومة الإغراء، فمدّت يدها وتناولت النّصف المسموم، ولكنّها لم تكد تبتلع لقمةً منه حتّى خَرَّت على الأرض ميتةً. حينئذٍ رمتها الملكة بنظرةٍ قاسيةٍ وحشيّةٍ وقهقهت ضحكًا وقالت بصوتٍ عالٍ:
- "أيّتها البيضاء كالثّلج والحمراء كالدّم والسّوداء كخشب الأبنوس! هذه المرّة لن يستطيع الأقزام أن يُعيدوا إليك الحياة"!
ولمّا وصلت إلى قصرها سألت المرآة ليطمئنّ بالها:
- "أيّتها المرآة الصّغيرة! أيّتها المرآة القائمة في هذا الحائط! مَن أجمل نساء هذه البلاد كلّها"؟
فأجابتها المرآة أخيرًا:
- "يا سيّدتي الملكة، أنتِ أجمل نساء البلاد قاطبةً"!
حينئذٍ، استراح قلب هذه الإمرأة الحسود وهدأ روعها بعض الهدوء ونامت غير مثقلةٍ بالوساوس والهموم كالأيّام السّالفة.
في النَّعْش
في المساء، وجد الأقزام، عند أوبتهم، الفتاة ثلجيّة متمدّدةً على الأرض، وبعد الفحص وجدوا ألّا نَفَس ينبعث من فيها، كأنّها من عالم الموت؛ فرفعوها وأخذوا يُنقّبون عن السّمّ ثمّ حلّوا مشدّها ومشّطوا شعرها ومسَحوها ودلّكوا جسمها بالماء والخمر، ولكنّ كلّ ذلك لم يغْنِهم شيئًا إذ ظلّت الفتاة جامدةً لم تبدُ منها أيّ علامةٍ من علامات الحياة. عند ذاك، أسجوها على نعشٍ وجلسوا بقربها وذرفوا الدّموع السّخيّة ثلاثة أيّام متتاليةٍ وتهيّأوا لدفنها بعد ذلك، ولكنّهم لاحظوا أنّ لونها كلون الأحياء وأنّ بشرتها ناضرةٌ وخدّيها ورديّان كما كانت قبل موتها، فقالوا عندئذٍ:
- "لا يسعنا أن نُواريها الثّرى"!
وكلّفوا الصّنّاع فعملوا لها نعشًا منَ الزّجاج الشفّاف بحيث يرونها من جميع الجهّات. وبعدما أودعوها داخل النّعش الزّجاجيِّ، كتبوا عليه بأحرفٍ من ذهبٍ: هنا ترقد الأميرة ثلجيّة الجميلة.
حزن الوحوش
وحملوا النّعش وأتوا به إلى الجبل حيث تولّى حراسته الأقزام، كلّ واحدٍ في نوبته، وأتت الوحوش نفسها إليه وبكت ثلجيّة وندبتها. وكان أوّل ما جاء طيرٌ من البوم ثمّ غرابٌ وأخيرًا حمامةٌ.
وظلّت ثلجيّة في تابوتها زمنًا طويلًا جدًّا، دون أن تَبْلَى ويفسد جسدها الجميل. وكلّ من رآها خالها تنام لأنّها كانت بيضاء كالثّلج، حمراء كالدّم وذات شعرٍ داجٍ كخشب الأبنوس.
الأمير
وفي ذات يومٍ، كان أحد الأمراء يطوف في الغاب فدخل بيت الأقزام ليقضي فيه ليلَتَه. في أثناء تجواله أبصر النّعش على الجبل ورأى فيه الأميرة الفتّانة وقرأ ما كُتِب عليه بالحروف الذّهبيّة. وقال للأقزام:
- "سلّموني هذا النّعش، ولكم منّي بدله ما تشاؤون"!
فجاوبه الرّجال الصّغار:
- "لا! لن نتركه لك بمال الدّنيا"!
حينئذٍ قال لهم:
- "قدّموه لي هديّةً، لأنّي لن أستطيع العيش دون أن أرى الفتاة ثلجيّة، وسوف أحرص عليه وأكرّمه كأنّه أقدس الأشياء عندي وأغلاها"!
ما سمع الأقزام الصّالحون هذا الكلام حتّى رقّ قلبهم وأشفقوا عليه وسلّموه النّعش؛ فأمر الأمير خدّامه أن يحملوه على أكتافهم ففعلوا.
العودة إلى الحياة
في أثناء السّير عَثَر حاملو النّعش بعُلّيقةٍ نابتةٍ على الطّريق فأحدثت العثرة هزّةً عنيفةً أخرجت من فم ثلجيّة قطعة التّفّاحة الّتي كانت قد ابتلعتها. وبعد هنيهةٍ فتحت الفتاة عينيها وعادت إلى الحياة ورفعت غطاء النّعش وقامت وما أبطأت أن صرخت:
- "يا إلهي! أين أنا"؟
فأجابها الأمير، وقلبه يرقص رقص الفرح:
- "إنّكِ بقربي"!
الزّواج السّعيد
وبعد أن قصّ عليها كلّ ما حدث لها أضاف قائلًا:
- "إنّي أحبّك أكثر من أيّ مخلوقٍ على وجه البسيطة! تعالي معي إلى قصر أبي! وهناك ستكونين زوجاً لي"!
رحّبت ثلجيّة به واستأنست ولحِقَت به إلى القصر حيث جرى لِعرسهما احتفالٌ باهرٌ وضربت للعروسين فيه البشائر.
غيظ الملكة
كانت خالة الأميرة الخائنة نفسها قد دُعيت إلى حفلة العرس. وبعد أن تهيّأت وتزيّنت بأبهى حُللها اقتربت من المرآة تسألها:
- "أيّتها المرآة الصّغيرة! أيّتها المرآة القائمة في هذا الحائط! مَن أجمل نساء هذه البلاد كلّها"؟
فأجابتها المرآة:
- "يا سيّدتي الملكة، أنتِ أجمل امرأةٍ ههنا، ولكنّ الملكة الشّابة تفوقك ألف مرّةٍ بجمالها".
فأخذت حينئذٍ تنفث الشّتائم واللّعنات، وثار ثائرها واشتدّ حزنها وتأثّرُها حتّى كاد يختلُّ توازن عقلها وتفقد رُشْدَها، ونَوَت ألّا تحضر حفلة الزّفاف في أوّل الأمر، ولكن رغبتها في أن ترى الملكة الفتيّة دفعتها إلى تغيير رأيها.
جزاء الحسد
لم تكد الملكة الحاسدة تدخل قاعة الحفلات حتّى عرفت ثلجيّة من أوّل نظرةٍ، وأنّها هي الملكة الشّابة بالذّات، فجمدت في مكانها بلا حركةٍ كالمصعوقة، تضطرب من الفزع والهلع.
وكانوا قد أعدّوا في القصر نِعالًا من حديدٍ أحموها على الفحم الملتهب وأخرجوها من النّار بملاقط ووضعوها أمام الملكة الشّرّيرة وأجبروها أن تَحْتَذيها وهي حمراء كالجمر، وترقص بها. وبقيت على تلك الحال حتّى وقعت على الأرض جثّةً هامدةً وماتت.
يوسف س. نويهض
مترجمة – بتصرّف -