جِنِّيَّةُ الغديرِ

الطحَّان

   يُحْكَى أنَّ طَحَّانًا كان يقطُن في أحد البيوت مع زوجته، وكانا من ذوي المال والثِّراء، تنمو ثروتهما سنةً بعد سنةٍ، ويعيشان عيشةً هانئةً. لكنَّ الشّقاء، كما يقول المثل، "يفاجىء الإنسان في ظلمة اللّيل"، إذا كان هذا الإنسان قليل الحظّ، سيّء الطّالع. ويَظهر أنّ البخت لم يؤَاتِ الطَّحَّان وامرأته طويلًا، إذ إنَّ مالهما الطّائل قد تبدَّد وزال بحيث أوشك الزَّوج أن يعجز عن الاحتفاظ بمطحنته التي باتت علَّة معاشه الوحيدة؛ فاستولى الحزن العميق على قلبه، وفي المساء، عند لجوئه إلى البيت، ليأخذ قسطه من الرّاحة، كانت الوساوس تنتابه وتُشغل باله وتُقلقه فتحرمه لذيذ النَّوم، فلا يُغلق له جفنٌ ويتقلَّب في سريره ذات اليمين وذات اليسار.

ظهور الجنِّيّة

   في ذات يوم، أفاق الزّوج من رُقاده، قبل بزوغ الفجر، وخرج من البيت ليستنشق الهواء النَّقيّ، وليروِّح عن باله عناء الهمِّ وتعب القلب. وعندما صار بقرب سدّ الطّاحون، قُبيل أن تُرسل الشّمس أشعّتها الأولى على الأرض، سمع ضجيجًا في جوف الغدير الوسيع هناك، فالتفت إلى مصدر ذلك فأبصر امرأة جميلة ترتفع رويدًا رويدًا في وسط الماء؛ وكانت ذات شعر طويل غزير، يتدلّى من جميع الجهّات على جسمها الأبيض الجميل، فتناولته بيديها الطّويلتين وأسبلته على كتفيها، فحدَّق إليها الرّجل وعرف أنّها جنيّة الغدير وشيخته، فذعر وخاف خوفًا شديدًا وجَمُدَ في مكانه، لا يدري إذا كان عليه أن يهرب أو أن يظلّ واقفًا منتظرًا ما سيحدث؛ ولم يكد يقول هذا في نفسه حتىّ توجّهت إليه الجنّية وأسمعته كلامًا عذبًا ونادته باسمه وطلبت منه أن يوقفها على سبب حزنه وحقيقته، فبهت الطّحان في بادىء الأمر ولكنّه عندما سمع لهجتها اللّطيفة المؤنسة هدأ روعه، وثابت إليه قوّته وتشجّع فأخبرها عن سيرة حياته، وأنّه كان حتّى وقت قريب،  يعيش في بحبوحةٍ من العيش، ولكنه نُكب أخيرًا وخسر ثروته وحلّ الفقر عنده محلّ الغنى، وساء مصيره، ولم يعد يدري ما يتوجّب عليه  أن يعمل لينجو من مأزق العوز والذّلّ؛ فقالت له الجنّيّة: "اهدأ بالًا ولا تخف؛ فسأجعلك غنيًّا وسعيدًا أكثر ممّا كنت؛ ولكن أشترط عليك، مقابل ذلك، أن تَعِد بإعطائي ما قد وُلد عندك السّاعة".

   فقبل الطّحّان الشّرط ووعدها بإعطاء ما طلبت منه ظانًّا أنّ المولود لا يُمكن أن يكون إلّا جروَ كلبٍ أو جروَ هرٍّ!

الوعد المشؤوم

   وغطست التّابعة في الماء واختفت عن الأنظار، وعاد الطّحّان إلى طاحونه منشرح الصّدر سعيدًا مُتعزّيًا. ولم يكد يبلغ مسكنه حتّى لاقته الخادمة وصرخت في وجهه تُبشّره بقولها:

افرح وطِب نَفْسًا؛ لقد وَلَدَتْ لك امرأتك صبيًّا. فارتعد جسمه للبشارة واضطرب اضطرابًا شديدًا كالمصعوق، لأنّه أدرك تمامًا أنّ الجنّيّة الغدّارة قد خدعته، واقترب من سرير زوجته الوالدة وهو مخفوض الرّأس. ولمّا رأته سألته عن مصدر حُزنه وعبوسه، فأوقفها على ما حصل وعلى الوعد المشؤوم ثمّ قال:

- "لا تهُمُّني السّعادة والغنى إذا كانا سببًا لخسران ولدي". ولكن ما الحيلة، وقد جرى ما جرى وانطلق السّهم ولم يبق من سبيل لإرجاعه!

   ووافاه جميع الأهل والأصدقاء لتهنئته بالمولود، ولمّا اطّلعوا على الخبر حاولوا مساعدته وإيجاد مخرج له ما استطاعوا، ولكن بدون جدوى. غير أنّ الأيّام أنسته وعده وعادت السّعادة إلى منزله، فطفح جوُّه بالفرح، إذ صار ينجح في كلّ مشروع يقوم به، وبدا له أنّ صناديقه تمتلىء وأمواله تتضاعف، وأنّه بات أغنى بكثير ممّا كان؛ سوى أنّ فرحه كان مشوبًا بالقلق النّفسانيّ والوساوس، لأنّ وعده للجنّيّة كان يساور قلبه ويُعذّبه مرارًا.

   فكان كلّما مرّ بقرب الغدير يستولي عليه الجزع الشّديد خوفًا من أن تخرج إليه الجنّية وتطالبه بتنفيذ ميعاده، ولم يسمح لابنه قطُّ بأن يقترب من ضفّة الماء أو أن يحمله إليها أحدٌ، بل كان يقول له:

- "إيّاك يا بنيَّ أن تدنو من الماء وتمسّه بيديك.فإن خالَفْتني وفَعَلْتَ خَرَجَتْ منه يدٌ فتقبض عليك وتجرّك إلى قاع الغدير".

زواج ابن الطّحّان

   وبالرّغم من خوف الطّحّان وحذره، فقد مرّت السِّنون دون أن تظهر الجنّية أبدًا، حتّى أنّه أخذ يطمئنّ ويهدأ باله؛ ونما الولد وترعرع وصار شابًّا، فأُدخل مدرسة أحد الصّيادين لتعلّم الصّيد. ولمّا أصبح بارعًا فيه استخدمه أحد الأشراف في قصره.

   وكان في القرية ابنةٌ شابّةٌ جميلةٌ فاضلةٌ أعجبت الصّياد الشّاب؛ فلمّا عرف صاحب القصر محبّته لها وهبه بيتًا خاصًّا وخطب له الفتاة ودعا النّاس إلى عرسه فأقيمت له حفلةٌ شائقةٌ، وعاش الزّوجان قريري العيون سعيدين، يحبّ الواحد الآخر حبًّا عميقًا قلبيًّا.

الابن في القنص

   وفي ذات يوم، ذهب الزّوج كعادته إلى القنص. وفيما هو يتجوّل في البرّية، رأى غزالًا، فطارده، مُتَّتبِّعًا أثره، حتّى وصل إلى أحد السّهول، حينئذٍ أطلق عليه بندقيّته فصرعه. ولم ينتبه إلى أنّه كان على مقربة من الغدير الخطر، فدنا منه ومدّ يديه إلى مائه ليغسلهما ويزيل ما علق عليهما من دماء الحيوان المقتول، ولكن لم تكد أنامله، الملطّخة بالأحمر القاني، تلامس الماء حتّى ظهرت الجنّية وأحاطته بذراعيها المبلّلتين مبتسمة له وجرت به مسرعة أكثر ممّا تُسرع الأمواج، وغارت وإيّاه في اللُّججِ بعد أن أحدث انطباق الماء عليهما صوتًا يشبه القرقعة.

   ولمّا أقبل المساء، ولم يعد الصّيّاد إلى بيته، تخوّفت امرأته واضطربت وقامت من ساعتها، وخرجت من البيت لتبحث عنه، وتذكّرت جيّدًا أنّه أخبرها يومًا بحكاية الجنّية وإنذار أبيه له وتحذيره إيّاه من ماء الغدير والاقتراب منه، تجنّبًا لحبائل الجنّية وإيذائها، وخافت أن يكون قد وقع في ما حذّره منه أبوه، فأسرعت نحو الغدير، ولمّا أدركته أبصرت على ضفّتيه جعبة زوجها، فلم تشكّ فيما قد حلّ به من بلاءٍ وأخذت تبكي، ذارفةً الدّموع السّخينة، وتندب حظّها المشؤوم وتفرك يديها مناديةً رَجُلَها المحبوب باسمه، ولكن بدون أيّة فائدةٍ، إذ لم يردّ على ندائها إنسٌ، وشرعت تتجوّل حتّى بلغت الضفّة المقابلة تبحث عن الشّخص الغالي وتناديه بأعلى صوتها المبحوح فلم تجد من يُصغي إليها، وغضبت غضبًا شديدًا وصارت تشتم وتسبُّ وتدعو على من أفقدها بعلها الشّابّ وتستنجد، فلم ينجدها إنسانٌ.

   وكانت صفحة الماء برّاقةً كمرآةٍ والقمر الذي لم يبلغ الكمال، كان يراقب الإمرأة الحزينة ويُرسل عليها أنواره دون أيّة حركةٍ.

الحلم المُنَجّي

   لم تغادر الزّوجة المسكينة ضفّة الغدير بل بقيت تذرعها جيئةً وذهابًا، بخطًى سريعةٍ، مضطربةً، من غير توقّفٍ أو استراحةٍ، كمن فقدت صوابها: فمرّةً تصرخ صراخًا حادًّا يشقّ عنان الفضاء، وتارةً تتكلّم بصوتٍ منخفضٍ كأنّها توشوش أحدًا أو تُسرّ إليه أمرًا مهمًّا. وظلّت على تلك الحال حتّى بلغ الإعياء منها مبلغًا كبيرًا ونُهكت قواها فسقطت على الأرض ونامت نومًا عميقًا.

   وفي أثناء نومها ذلك، حلمت أنّها تتسلّق ممرًّا بين صخرتين كبيرتين وتُلاقي في سيرها تعبًا ومشقّةً مُضنيةً، وأنّ الأشواك والعيدان القاسية الحادّة كالإبر، كانت تُدمي قدميها الطّريئتين، والأمطار الغزيرة تجلُد وجهها والرّياح تبعثر شعرها الطّويل. وأنّها رأت مشهدًا آخر عندما أدركت قمّة الجبل: وهو أنّ السّماء كانت صافيةً زرقاء، والهواء لطيفًا عليلًا، والأرض تنخفض في انحدارٍ خفيفٍ، وأنّه يوجد كوخٌ جميلٌ في وسط سهل فسيحٍ مزهر مخضرٍّ بالأعشاب، فاقتربت من الكوخ وفتحت بابه فرأت فيه امرأةً عجوزًا شمطاء بيضاء الشَّعر، عَمِلَت لها إشارةً لطيفةً آنَسَتْها بها.

   وفي تلك الدّقيقة التي رأت فيها ذلك الحلم استيقظت الإمرأة البائسة، وكان النّهار قد طلع، فعزمت للحال، على المسير في الطّريق الضّيّقة وتسلّق المنحدر لبلوغ ذروة الجبل لترى إذا كان منامها يتحقّق، فتسلقّت الجبل بعناء مضنٍ وشاهدت كلّ ما رأته في الحلم أثناء رقادها، واستقبلتها العجوز استقبالًا حافلًا بالمحبّة واللّطف، وعيّنت لها مقعدًا ودَعَتها للجلوس عليه، ثمّ قالت لها، بعدما قعدت:

- "لا ريب يا بُنَيّتي أنّ بلاءً قد أصابك وهو الذي أحوجك وساقك إليّ في هذا البيت الزّريِّ البعيد المنعزل. ولولاه لما كلَّفتِ نفسك وتحمّلتِ هذا التّعب وتعرّضت للمخاطر".

   فقصّت عليها الإمرأة التّعيسة قصّتها وهي تبكي، فأجابتها العجوز: "تعزَّيْ ولا تيأسي يا أخَيَّتي، فإنّي سأمُدَّ إليك يد المساعدة. إليك هذا المشط الذّهبيّ، خذيه واحفظيه معك حتّى يكتمل القمر فيصير بدرًا، وفي ذلك الوقت اذهبي إلى الغدير واقعدي على ضفّته ومشّطي شعرك الأسود الطّويل بالمشط الّذي أعطيتك، وعندما تنتهين من عملك تضعينه عل الشّطِّ بقربك وترتقبين ما سيكون ويحدث".

المشط العجيب

   وآبت المرأة إلى منزلها حزينةً، وبدا لها الوقت طويلًا جدًّا، قبل أن يبلغ القمر الكمال، ولكن لم يكن لها بدٌّ من الانتظار المُتعب. وأخيرًا التفتت إلى السّماء فرأت صفيحةً مستديرةً من نورٍ وهّاجٍ، هي البدر يملأ الكون بهاءً، فتهيّأت وخفّت إلى قرب الغدير، حيث مشّطت شعرها الطّويل الحالك بالمشط الذّهبيّ. وما أن فعلت ذلك حتّى وضعته على حافّة الماء. وللحال، سمعت صوتًا كصوت غليان القِدْرِ ورأت موجةً تعلو رويدًا رويدًا من الأعماق تمدُّ وتتدحرج إلى أن بلغت الضِّفّة، فحملت معها المشط وجَزَرَتْ وارتدَّت ثمّ سكنت. ولم يكد المشط يلاصق القاع ويلامس أرض الغدير حتّى انشقّت صفحة الماء وصعد على وجهها رأس الصّيّاد، ولكنّه لم ينطق ولم يبدر منه أيّة كلمةٍ، بل ألقى نظرةً كئيبةً على زوجته.

   وفي ذات الدّقيقة هاجمته موجةٌ ثانيةٌ صاخبةٌ وطغت عليه وغطّت رأسه واختفى كلّ شيءٍ، وعاد الغدير هادئًا ساكنًا كما كان من قبل وأنوار البدر تلمع على صفحته الصّقيلة.

المزمار الذّهبيُّ

   عادت الزّوجة يائسةً حزينةً، ولكنّ حلمًا كالأوّل عاود وأراها ثانيةً كوخ العجوز، ولم تكن تفيق في الصّباح الباكر حتّى بادرت إلى المسير، فبلغت الكوخ وحكت للعجوز الصّالحة مُصيبتها، فأعطتها هذه المرّة مزمارًا من ذهب وأوصتها قائلةً:

- "انتظري إلى أن يُدرك القمر تمامه ويصير بدرًا، عندذاك تعودين إلى الغدير وتجلسين على ضفّته كالمعتاد وتعزفين على المزمار لحنًا عذبًا، ولمّا تنتهين تضعين الآلة على الرّمل وترين ما سيكون".

   وعملت المرأة بما أوصتها العجوز الصّالحة، فلم تكد تضع المزمار حتّى هاج الماء هياجًا قويّا، فارتفعت موجةٌ هائجةٌ ثمّ اندفعت نحو الشّاطىء وابتلعت الآلة المُطْرِبة. وسرعان ما انشقّت المياه وظهر الصّياد، على وجهها، ليس فقط رأسه ، بل نصف جسمه أيضًا. سوى أنّ موجةً ثانيةً هاجمته بضجيجٍ وعنفٍ وأسبلت عليه زبدها، فغطَّته وساقته إلى قرار الغدير.

فقالت البائسة المسكينة:

- "ما أتعس حظّي وما أشقاني! ما انتفاعي برؤية حبّي، هذه الهنيهة القصيرة، إذا كان يختفي عن ناظري بعد ذاك طويلًا".

مِغْزَلُ النَّجاة

   ومَلأ الحزن الشّديد قلبها من جديد، ولكنّ حلمًا ثالثًا أوحى إليها الذّهاب ثالثةً إلى منزل العجوز، فهبّت، دون إبطاءٍ، وسارت حتّى وصلت إلى الكوخ، فأعطتها المرأة الصّالحة مِغْزَلًا من ذهب وواستها قائلةً:

"لم ينقطع الأمل بعد، فتشجّعي وإذا ما بلغ الشّهر نصفه وصار القمر بدرًا، فخذي مغزلك هذا واذهبي إلى الغدير واجلسي قرب الضّفة واغزلي حتّى يمتلىء مغزلك. وعندما تنجزين عملك تضعين المغزل قرب الماء وترقبين ما سيكون".

   تبعت المرأة نصيحة العجوز بكلّ دقّةٍ ولم تحِد عنها أبدًا. ولمّا بدا القمر بدرًا، حملت مغزلها الذّهبيّ وسارت حتّى وصلت إلى ضفّة الماء وغزلت غزلًا دقيقًا وهي صابرةٌ صبرًا جميلًا إلى أن امتلأ المغزل بالخيطان. ولم تكد تضع آلة الغزل على الحافّة حتّى أخذ الماء في الغليان الشّديد، أكثر من المرّتين السّابقتين وهاج هياجًا قويًّا واندفعت موجةٌ كالصّاعقة نحو الرّمال وحملت المغزل إلى القاع. وما كاد يستقرّ فيه حتّى ظهر رأس الصّيّاد وجسمه أجمع، فقفز مُسرعًا كالغزال إلى الضّفة واقترب من زوجته فأمسك بيدها وولّى وإيّاها هاربين، دون أن يلويا على شيءٍ. ولكن لم يكادا يخطوان بضع خطواتٍ ويؤمّلان في النّجاة، حتّى اضطرب ماء الغدير وارتفع وهاج هياجًا هائلًا وطفا على السّهل المجاور فغمره بقوةٍ لا تقاوم ولا تردّ. عندئذٍ، تحقّق الهاربان البائسان الموت المحتوم، إلّا أنّ المرأة الجريئة تدرّعت بالصّبر ورباطة الجأش واستنجدت العجوز، بالرّغم من حزنها الشّديد، فأنجدتها وزوجها من ساعتها، دون تلكّؤٍ، إذ سحرتهما، فصارت المرأة ضفدعةً والرّجل علجومًا، ولهذا، فإنّ المياه الطّاغية الّتي كانت قد غمرتهما، لم تستطع أن تغرقهما وتقضي عليهما، ولكنّها فرّقتهما الواحد عن الآخر وقذفتهما إلى مكانين مختلفين وبعيدين جدًا.

راعٍ وراعيةُ

   ولمًا جزرت المياه وعادت إلى مستقرّهًا الأوّل جفّت الأرض وانفكّ السّحر وانقلب العلجوم والضفدعة إلى حالهما الإنسيّة، ولكنْ، كلٌّ من الزّوج والزّوجة رأى نفسه وحيدًا في أرضٍ جافّةٍ، ولم يعرف الأوّل ما حلّ بشريكة حياته، ولم تعلم الزّوجة مكان بعلها، والتفتا حولهما فتثبّتا أنّهما بين أناسٍ غرباء، لا يعرفان أحدًا منهم؛ ولم يعرف هؤلاء بلد الزّوجين الضّائعين اللّذين كانت تُباعد بينهما جبالٌ شاهقةٌ وأوديةٌ عميقةٌ.

   ولكي يتمكّنا من كسب عيشهما اضّطُرّا إلى حراسة الغنم ورعايتها. وهكذا قضيا سنواتٍ يقودان قطعان المواشي إلى الأحراج والحقول والمراعي، يتأكّل قلبيهما الأسى والأسف للفراق الأليم الّذي نغّص حياتهما.

   ولحسن الحظّ اتّفق مرّة، في مطلع فصل الربيع الّذي أخذ يزيّن الأرض بالأزهار والأعشاب النّاضرة، أن خرجا من زرائبهما وساقا قطعانهما على غير هدًى، لا يعرفان أين يسيران، وكلٌّ منهما آملٌ أن يلاقي رفيقه الضّائع في طريقه.

   وفيما هما يتجوّلان مع الخراف، حانت من الزّوج التفاتةٌ إلى إحدى الجهات، فأبصر غبارًا كثيفًا فاقترب منه شيئًا فشيئًا، فرأى، في منحدر أكمةٍ، قطيعًا، فواصل السّير نحوه حتّى أدركه في الوادي، وكان يرعاه شخصٌ لم يعرفه في أوّل الامر.

فسُرَّ الرّاعيان واستأنسا الواحد بزميله لأنّهما لن يرعيا الخراف بعد اليوم مستوحشين. ومنذ ذلك الحين اتّفقا على أن يقودا مواشيهما إلى مكان واحدٍ ترعى فيه الكلأ. ومن الغريب أنّهما لم يتحادثا ولكن أحسّا براحةٍ وعزاءٍ، وزالت وحشتهما وقلقهما.

التّعارف السّعيد

   وفي ذات عشيّةٍ، وقد انتصف الشّهر، بزغ القمر البدر من وراء الأفق وأخذ يتعالى قليلًا قليلًا مالئًا الدّنيا بأنواره البهيّة الّلألاءة. وكانت الخراف والكباش والنعاج  بائتةً في زرائبها، فقام الرّاعي إلى جعبته وأخرج منها نايًا وشرع يعزف عزفًا عذبًا ساحرًا ولكنّه محزنٌ.

وما أن انتهى من عزفه حتّى التفت إلى الرّاعية فرآها تبكي بكاءً مريرًا وتسكب عَبَراتٍ غزيرةً، فسألها على الفور قائلًا:

- "ولماذا تبكين أيتها الرّاعية؟ "

فأجابته:

- "يا حسرتاه ويا حرّ قلباه! إنّها لذكرى مؤلمةٌ مرّت بخيالي الآن! ففي مثل هذه اللّيلة القمراء السّاحرة، كنت أعزف مثلك على مزماري لآخر مرّة، عندما رأيت رأس حبّي الغالي، يبدو على صفحة الماء."

   انتفض الرّاعي وأخذ يحدّق إليها، فأحسّ أنّ غشاءً كان مُسْبَلًا على عينيه، قد أُزيح عنهما. وعندئذٍ عرف أنّ تلك الرّاعية زوجته المحبوبة الضّالة. ونظرت إليه مليًّا على ضوء القمر فعرفته من وجهه أنّه زوجها الضّال، وصرخا صراخ السّرور واندفعا الواحد إلى الآخر يغمر كلّ منهما شريكه بذراعيه وتعانقا وعاشا عيشةً، لا تسل عن هناءتها وسعادتها، يغبطهما عليها جميع النّاس المحبّين وغير المحبّين.

                                         يوسف س. نويهض

                                         مقتبسة من الفرنسيّة