خالي يوسف الأستاذ

 

   قبل أكثر من ستّة عقود، أي في خمسينيّات القرن الماضي، كنت واقفًا على شرفة منزل جَدّي [فايز علي نويهض] في رأس المتن المطلّة على منزل خالي يوسف سليم نويهض، وإذ بي أسمع صوت خالي يُلقّن أولاده الثلاثة الأُول مفردات لغة غريبة لم أفهم معانيها.

   ركضت مسرعًا إلى جدّتي (أم عادل) وسألتها عن تلك اللغة (أو، أي، آه)، ضحكتْ وأشرق وجهها وأوضحت اللّغز قائلةً: يوسف هو شقيقي، وخال والدك عادل، نال في شبابه منحة دراسيّة للتعلّم في أهمّ جامعات باريس، وعاد إلى بيروت وهو الآن يدرّس في "اللاييك" واللغة التي سمعتها هي اللغة الفرنسيّة.

   كان من الصعب وأنا في سنّ صغير أن أتحمّل كل هذه المعلومات الثريّة في لحظة سريعة. فالخال الذي يدرّس أولاده في عطلة الصيف وعلى طاولة "السُفرة" هو شقيق جدّتي، وخال أبي ومتفوّق في دراسته ومتعلّم في باريس وأستاذ في "اللاييك" ويجيد اللغة الفرنسيّة.

   كل هذه المعلومات كانت بحاجة إلى وقت لاستيعابها، ولكن منذ تلك المصادفة أصبح خال والدي هو الأستاذ وذلك لتمييزه عن خالي الدكتور يوسف حسين نويهض (شقيق والدتي). فالأستاذ [خال والدي] جارنا وكان يصرّ خلال فترة عطلة الصيف على تلقين أولاده الأوائل (جهاد، عماد، وجواد) مختلف العلوم المطلوبة في البرامج التعليمية في "صفّ" يومي  يُعقد حول طاولة السُّفرة.

   ارتسم هذا المشهد اليوميّ في ذاكرتي، فالأستاذ يعلّم أولاده ونحن نلعب ونلهو في فترة عطلة الصيف التي تكرّرت سنويًّا، حتى أصبحتُ معتادًا على سَماع تلك اللغة العجيبة.

   كان مقرّ خالي الأستاذ ملاصقًا لمنزل جدّي وكنّا نلعب يوميًّا في حديقة ذاك البيت الحجريّ الجميل الذي جرفته توسعة الطريق في الستينيّات. فالحيّ "النويهضيّ" الذي يجمع أبناء الخال والعمومة تبعثر بفعل التحديث العشوائيّ وتشرذَمَ وتوزَّعَ سكانه على أحياء متباعدة. قبل تلك الفترة كان أبناء العمّ والخال والأخوة يعيشون إلى جانب بعضهم ويسهرون معًا ويتبادلون الأخبار ويتداولون الذكريات في جلسات أُنس سعيدة.

   كان خالي الأستاذ في تلك الأيّام يزور شقيقته (جدّتي) دائمًا وكنت أنتبه إلى أحاديثه التي تختلف عن تلك التي أسمعها عادةً من غيره. فالأستاذ مختلف في لباسه الأنيق ومشيته المؤدّبة ولغته المرتّبة وحرصه على متابعة الأخبار. وبسبب اختلاف خالي الأستاذ عن غيره في سلوكه اليوميّ وتعامله مع الآخر أصبح محطّ أنظار محيطه لكونه يمتهن حرفة التدريس ويقرأ الصحف والدوريات وتحديدًا مجلة "العربيّ" التي كانت تصدر في الكويت.

   كان خالي الأستاذ يحرص على اقتناء تلك المجلة الشهريّة التي تهتم بالشؤون العربيّة والفكريّة ولها زاوية دائمة هي أشبه بتحقيق عن مدينة عربيّة يتمّ الحديث عن تاريخها وتراثها وأزقّتها وعمرانها ومكتبتها وجامعتها وجامعها وغيرها من حقول تفتح أمام القارئ ذاك المجال المطلوب للتواصل والتعارف بين أبناء الأمّة من المحيط إلى الخليج.

   كانت الحياة متواضعة في تلك الأيام، وبسبب تلك البساطة تصبح كلفة المعاش متدنّية، وتحديدًا حين تتم تلك اللقاءات بين الأحبّة والأقرباء في مجلس جدّي. فالمجالس في تلك الأيام السعيدة كانت مسامرات ومناسَبَة لتبادل أحاديث الذكريات والسؤال عن أحوال المغتربين أو الغائبين، وأيضًا تعطي فرصة للنقاش عن أوضاع المنطقة وما ستؤول إليه في المقبل من الأوقات.

   استمرّ الخال الأستاذ في مهنة التدريس التي فرضت عليه السكن في بيروت بجانب الكلّية. كذلك استمرّ على عادته في الصعود إلى رأس المتن لقضاء فصل الصيف وتدريس عائلته التي اتّسع نطاقها فانضم إلى جهاد وعماد وجواد كلٌّ من جنان وإيّاد ولينا وسليم.

   أصبحت السنوات السعيدة والبسيطة والسهلة تدور وتتراكم، وتحوَّل خالي الأستاذ إلى صديق دائم الحضور وتحديدًا حين احترفتُ مهنة القراءة والصحافة والكتابة في مطلع السبعينيّات. حتى تلك اللحظات كانت الأمور عاديّة وأثمرت ساعات التدريس والتلقين في إنتاج أسرة منفتحة ومتميّزة بالعلم والثقافة.

   أعطت أسرة خالي الأستاذ إشارات أظهرت اختلافها عن غيرها في المجال الثقافي وحقول القراءة وإجادة الحوار والتكلّم بتلك اللغة الغريبة.

   آنذاك عَرَف عماد شهرة مبكرة بعد أن ترجم كتاب "إبراهام ليون" عن المسألة اليهوديّة من الفرنسيّة إلى العربيّة بناءً على نصيحة المستشرق الفرنسيّ "مكسيم رودنسون". قد تحوّل كتاب ليون ومقدّمة الترجمة التي كتبها عماد إلى مرجع، أثارَ آنذاك زوبعة من الردود والنقاشات، ما طرح إمكانيّة نمو تيّار فكريّ متقدّم يكون ابن خالي الأستاذ في طليعته.

   كل الاحتمالات أصبحت واردة حتى وقعت الحرب في مطلع العام 1975، وكانت مصيبتها الكبرى أن يكون عماد من أوَّل ضحاياها.

   بعد تلك الصدمة التي لم تكن متوقّعة بدأ الانكسار وأخذت تتلاشى الأيام البسيطة والسعيدة. فالخال الأستاذ الذي تلقّى ضربة بعد تقاعده عن التعليم أصبح في عالم يبحث عن مفقود لن يعود.

   لم يكن بالإمكان تعويض الخسارة وكان خالي الأستاذ يقول لي دائمًا "لقد فقدت الرّغبة في النوم، أنا في حال يقظة دائمة".

جاء القلق في لحظة متأخّرة ليرسم صورة لوحة تشكّلت ألوانها من طبيعة واقع متنافر في تكوينه ونموّه ونهاياته. فالخال الأستاذ أصبح ذكرى طيّبة تؤشّر إلى جيل كافحَ حتّى يؤسّس أُسرًا منفتحةً لها موقعها في هذا العالم الصاخب والكثير المطبّات.

 

                          وليد عادل نويهض