أَيَانَابَّا
قبرص
في خلال إقامتنا في هذه الجزيرة، التي أجّرتها السلطنة العثمانيّة للإنكليز العام 1878، أيّام كان "عبد الحميد سلطان"، والتي استقلّت في السنة 1960، بعد كفاح مرير قاسٍ، خاضه شعبها ما بين عاميّ 1955-1959، وقد زعمت جماعة الحزب السوريّ القوميّ أنّها تابعة جيولوجيًّا وجغرافيًّا طبيعيًّا للكيان السوريّ، وأنّها نجمة للهلال الخصيب، المتألّف من سوريا والعراق، لم نكن لنستكين في المكان الذي كان مبيتًا لنا في مدينة "ليماسول"، المرفأ البحريّ، بل كان معظم أيّام هذه الإقامة يخصّص لتفريغ الهموم، ولبنان منكوب بحرب وفتن ومحن وللتنزّه في الأماكن الجميلة اللّافتة للنظر والمفيدة للدرس والاستطلاع.
من هذه الأيّام يوم التاسع من نيسان 1984، أفقنا فيه باكرًا بكور الطير، وعرّجنا أوّلًا على سوق التموين في الثغر، حيث تزوّدنا ببعض المأكل والمشرب، وحيث استرعى انتباهنا مشهد مئات المخلوقات البشريّة، من باعة وتجّار وفلّاحين قرويّين، يعرضون خضارهم وفاكهتهم وألبانهم، ويرتدون سراويل ويعْتمرون لفّات سوداء، كسراويل ولفّات اللبنانيين الجبليّين القدامى، وفلّاحات قرويّات يلبسن مآزر طويلة محتشمة، لا تبدو فيها زنودهنّ ولا يبيّن من رؤوسهنّ سوى الوجوه، وهؤلاء وأولئك لا يتكلّمون غير لغتهم الإغريقيّة، القريبة نسبيًّا من لغة الجدود، لغة "أرسطاليسَ" و"فيثاغورسَ" و "هوميروس" وسواهم من فلاسفة وشعراء وحكماء اليونان الأقدمين، وبعضهم يتراطنون1 بلسان إنكليزيّ سوقيّ، اقتبسوه في أيّام الاستعمار الإنكليزيّ الذي استقرّ في جزيرتهم حوالى قرن من الزمن.
لم يطل مكثنا في السوق هذه، وهي الضاحية المكتظّة بالناس، المبكّرين مثلنا، حتّى انطلقنا إلى سيّارتنا التي توجّهت بنا صوب "أيانابا" وهي مقصدنا في هذا اليوم المشمس الدافىء الجميل.
"أيانابّا"
بعد جريٍ، دام ساعة تقريبًا، مررنا فيها بسهل متوسّط الاتّساع خصيب، تُزرع فيه الخضار المتنوّعة، وخاصّة البطاطا، ويكثر فيه شجر الزيتون والكرمة والخرّوب، وقد شبّهه رفيق لنا بسهل "عكّار" وهو لبنانيّ من بلدة "رحبة" العكّاريّة!
وبلغنا المكان المقصود بعد سير حوالى خمسين ميلًا، وهو البلدة التي اشتهرت بشاطئها الرمليّ القريب الشبه بشاطىء خلدة، قبل أن احتلّه المطار وغزته الطريق الساحليّة الدوليّة ومدينة الأوزاعي؛ يؤمّها بنو البشر من مختلف أقطار ألمانيا وانكلترا وأوروبا الشماليّة في فصلي الربيع والصيف، حيث يتنعّمون بالدفء ولطف حرارة الشمس، نائين عن ضباب الشمال الأغبر وسمائه المكفهرّة، وحيث رأيناهم مئات ومئات سابحين وسابحات، متوسّدين ومتوسّدات للرمال الناعمة، شبه عاريين وعاريات إلّا من مايّوهات، ساترات للعورات، لا تجاوز أوراق التين أو العريش طولًا وعرضًا.
غادرنا "أيانابّا" عند الأصيل وفي قلوبنا ميل إلى الإياب، وحاولنا الاتّجاه شرقًا بهدف زيارة مدينة معروفة في جنوب شرق الجزيرة هي: "فماغُسطا"، ولكن، حيل بيننا وبين الهدف، إذ إنّ هذه المدينة وهي أجمل حاضرة وأروعها ترهةً2 وأفخمها فنادق وأنعمها شطآنا، باتت تابعة للقسم التركيّ الذي انفصل عن الجزيرة الأمّ، بعد اقتسامها إلى شطرين في العام 1974؛ شطر منها وهو الشماليّ الشرقيّ التابع للحكم القبرصيّ التركيّ الإسلاميّ، والشطر الآخر وهو الجنوبيّ الغربيّ التابع للحكم القبرصيّ اليونانيّ المسيحيّ؛ والغريب في شأن هذا الاقتسام أنّ الجزء القبرصيّ الإسلاميّ تدعمه دعمًا وطيدًا دولةٌ مسيحيّة هي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، التي أمّنت لها قبرص المتترّكة قواعد عسكريّة كالتي للإنكليز في قبرص اليونانيّة، وهذه الأخيرة آثرت الحياد وعدم الانحياز، لا للغرب ولا لإسرائيل، فكان جزاؤها من أمريكا المسيطر على سيادة قادتها زعماء الصهيونيّة، التشجيع على تقسيمها إرضاءً لتركيا، حليفتها في الحلف الاطلنطي، وتحقيقها لمطامعها ومصالحها في بلاد شرقيّ البحر المتوسّط.
وما أن سمعنا هذا وتأكّدنا من عدم السماح لنا باجتياز الحدّ الفاصل بين القبرصين، حتّى وضعنا أيدينا على قلوبنا، متجاذبين أطراف الحديث فيما بيننا، وجلين مشفقين على لبنان، وطننا الصغير الحبيب، خائفين عليه من الوقوع في شركٍ كالذي وقعت في حبائله هذه الجزيرة فيتقبرص، تنفيذًا لمخطّط تقسيم آخر قد يقرّره الأقوياء، أقوياء هذا الكوكب، ونكون أسرى له وكبش محرقة نحن الضعفاء.
وواصلنا المسير في طريق معظمه عريض دوليّ، قيل إنّ دولة الكويت العربيّة المسلمة شاركت في إنشائه وتوسيعه، فبلغنا منطلقنا بُعيد الغروب وقُبيل انكفاء الشفق واندحاره وتواريه وراء أفق هذا البحر الغاسلة أمواجه شواطىء هذه الجزيرة الجميلة المقابلة لشواطىء بحر الشام، بحر سوريا ولبنان العزيز.
يوسف س. نويهض
- يتراطنون من رطن، أي تكلّم لغة غير مفهومة فيها خليط من العاميّة والأعجميّة.1
- ترهة: أرض واسعة خالية.2